في جزيرة روبنسن كروزو

 قد يكون الالتزام بالمثل القائل “إن كان الكلام من فضة فالصمت من ذهب” نوعا من الحيلة لتبرير سلوك سلبي يخون الحقيقة ويبتذلها.
السبت 2025/05/31
"أسير مع الجميع وخطوتي وحدي"

يقول دعبل الخزاعي الذي ولد في الكوفة بالعراق عام 765 ميلادية “إني لأفتح عيني حين أفتحها/ أرى كثيرا ولكن لا أرى أحدا”.

وحين كتب الكولومبي غابريال غارسيا ماركيز رواية “مئة عام من العزلة” بدأها بجملة تنم عن شعور بطلها بالوحدة “بعد سنوات عديدة، وبينما كان يواجه فرقة الإعدام، تذكر الكولونيل أوريليانو بوينديا تلك الظهيرة البعيدة عندما اصطحبه والده لاكتشاف الجليد”.

ويُنقل عن سقراط أنه رأى شابا يمشي بخيلاء من غير أن يُسمع له صوت فقال له “تكلم حتى أراك”.

وما بين شاعرنا العربي والجنرال الكولومبي بويندينا والفيلسوف الإغريقي تمتد خيوط غير مرئية لتشكل شبكة سوء الفهم القائمة بين ما يراه المرء والحقيقة. فليس كل ما نراه حقيقيا وليس كل ما نفكر فيه يتسع له الواقع.

و”في عصر التفاهة” وهو عنوان كتاب المفكر الكندي آلان دونو حيث بسطت التفاهة سلطانها على كل مستويات الحياة يتعمق شعور الإنسان المبدئي والأخلاقي بالوحدة في مواجهة كتل بشرية لا تفكر إلا بمصالحها الضيقة وقضاء أوقاتها بأيّ طريقة مسلية.

ذلك ما خلق من الصمت جدارا يحتمي به المرء خوفا من قول الحقيقية. فإذا أردت أن يرضى عنك الآخرون فزين لهم أخطاءهم وامدحها.

تلك حماقة صارت بمثابة وصفة جاهزة للمشاركة في الحفلات التنكرية التي صارت عنوانا اجتماعيا لعصرنا.

وقد يكون الالتزام بالمثل القائل “إن كان الكلام من فضة فالصمت من ذهب” نوعا من الحيلة لتبرير سلوك سلبي يخون الحقيقة ويبتذلها.

وليس مقتل المرء دائما بين فكيه إلا إذا كان المقصود الحث على التواطؤ مع ما تفعله الكثرة التي لن تكون على حق بالضرورة. في العالم الرقمي الذي نعيش بين صخب أمواجه يشعر الكثيرون أن لا مكان لهم بين الجماهير اللاهثة وراء أعمالها وأحلامها وأطماعها ومكائدها ومكاسبها.

هناك شعور بالانفصال هو مصدر غربة لا عن المكان وحده بل وأيضا عن الزمان.

يحلم البعض لو أنه أغمض عينيه ليفتحهما على زمان ومكان بعيدين وفي خياله شيء من متعة العيش على جزيرة تشبه تلك التي أقام عليها روبنسن كروزو.

يقول الشاعر العراقي سعدي يوسف “أسير مع الجميع وخطوتي وحدي.”

18