في تفسير المبالغات الفلسطينية للاحتفال بالذكرى الأولى لسليماني

خسارة مضاعفة: الاحتماء بإيران وخسارة الدعم العربي.
الأحد 2021/01/03
ولاء محور الممانعة لإيران.. رهان خاسر

فصائل فلسطينية بارزة تحرص على إظهار الولاء لإيران والاحتفاء برموزها، مثلما جرى في غزة من خلال تعليق صور قاسم سليماني، القائد السابق لفيلق القدس في الحرس الثوري، الذي اغتاله الأميركيون منذ عام. والهدف من وراء هذا الولاء الاحتماء بإيران والحصول على دعمها، لكن الورطة الآن أن إيران نفسها تواجه خطر ضربة أميركية ما قد يجر الفلسطينيين لدفع ضريبة جديدة.

حرصت غالبية القوى الفلسطينية التي تقيم علاقات وطيدة مع إيران، على عدم الإعلان عن الكثير من تفاصيلها وخباياها، وبدت حركتا حماس والجهاد حتى وقت قريب، أشد حذرا في التعامل مع ما يتردد حول دعمهما ماليا وعسكريا واعتبارهما من أدوات إيران التي تستخدم في تحقيق بعض أغراضها في المنطقة.

قبيل حلول الذكرى الأولى (3 يناير) لقائد فيلق القدس اللواء قاسم سليماني، تسابقت قيادات بالحركتين في الكشف عن، والمبالغة في، تلقي كميات كبيرة من الأسلحة وتدفق الدعم المالي بمعرفته من طهران بلا انقطاع، ما يعني أن هناك تعمدا لإخراج كواليس العلاقات معها من السرية إلى العلن، وأن المرحلة المقبلة قد تحمل الكثير من المفاجآت في سياق تفاعلات إقليمية قلقة.

لفتت تظاهرات الاحتفاء السياسي والعسكري والشعبي في قطاع غزة وخارجه، أنظار دوائر الكثيرين في المنطقة، وأوحت في مجملها بأن إيران لن تقف وحدها في خندق المواجهة، حال قررت الولايات المتحدة وإسرائيل استهدافها بأي شكل، وأن ثمة ضريبة سيدفعها من يقدم على خطوة ترمي لتقويض دور إيران، فهي محاطة بحزام إقليمي ممتد من العراق إلى سوريا، ومن لبنان حتى غزة، مرورا باليمن.

طهران استحسنت الردود الفلسطينية في الاحتفال بذكرى سليماني، لتغذية تيار التشدد والمقاومة، في رسالة جديدة تحمل معنى أن رحيل الرجل لن يغيب منهجه في المنطقة

ولعل تعالي أصوات أتباع وحلفاء إيران، بالصواريخ والتصريحات والهتافات، الأيام الماضية، ليس صدمة، ويؤكد أن الأوراق التي سعت إلى تكتيلها طوال السنوات الماضية جاء أوان استخدامها دفعة واحدة، ففي المرات السابقة كانت الرسائل تخرج بالقطعة وربما على استحياء، حسب متطلبات المرحلة، ويمثل تناغم ضجيج جميع من يدورون في فلك طهران، أن هناك أمرا خطيرا، وأنها استنزفت حيلها السياسية.

إذا كان من الطبيعي أن تظهر أجنحة، مثل حزب الله اللبناني وجماعة الحوثي المتمردة في اليمن والميليشيات الشيعية المتنوعة في العراق وسوريا، الولاء والتكاتف والتلاحم مع إيران، فإن مشهد القوى الفلسطينية وهي تتسابق في زيادة معدل الانحياز يبدو مثيرا للبعض، وينطوي على ملامح تشي بالتغير في الخطاب الإقليمي، والهدف كبير ويستدعي توصيل رسائل لمن يعنيهم الأمر في المنطقة.

يمكن التوصل إلى تفسيرات وتبريرات عديدة لتشديد قوى فلسطينية على إظهار الالتصاق بطهران في هذا التوقيت، أبرزها تقوية ما يسمى بتيار الممانعة الذي تتصدره إيران، في ظل ارتفاع خطاب ما يوصف بـ”الاعتدال” الذي يميل إلى تطبيع العلاقات مع إسرائيل، بكل ما يحمله هذا التوجه من تحولات دقيقة لن تصب في صالح القوى، التي لا تزال ترفع شعارات المقاومة على الساحة الفلسطينية.

وتريد قيادات هذه الفصائل الاحتماء بإيران، والتأكيد على أنها العنوان الوحيد لهذا التيار في المنطقة، بعد ما لحقه تفسخ في جسم أنصاره ومؤيديه على الساحة العربية، فهي الرهان الباقي والظاهر أمام القوى الفلسطينية، وقد يتراجع قاموسها أحيانا في هذا الفضاء وفقا لحساباتها الإقليمية، لكن لن تتخلى عنه، فهو جزء من خطابها الرسمي الذي تحرص على تصديره لدغدغة مشاعر أتباعها وتبرير العداء السافر لإسرائيل.

عندما أقدمت طهران على دعم حركتي حماس والجهاد في مراحل مختلفة، كانت تعلم أن هذا الدعم لن يكون مجانيا، وثمة ضريبة يجب أن تدفع، وفواتير سوف يأتي الوقت لسدادها، فتقوية الجبهة الفلسطينية أبعد من مسألة تحرير الأرض المحتلة أو فك أسر القدس من قبضة إسرائيل، ويصب في خلق جبهة ساخنة قريبة من الحدود مع إسرائيل يمكن توظيفها عندما تتزايد وطأة الضغوط الإقليمية والدولية على إيران.

وخضعت هذه الجبهة لتبادل أدوار بين إيران وإسرائيل، حيث يستفيد منها كل طرف في التوقيت الذي يناسبه، بصورة أثرت على الجدوى النهائية لفصائل المقاومة، فإسرائيل استخدمتها لدمغ الفلسطينيين بالعنف وتبرير انتهاكاتها، وإيران استخدمتها لتأكيد أن أذرعها تقف على مرمى بصر من إسرائيل.

الولاء والتكاتف مع إيران
الولاء والتكاتف مع إيران

تزامنت الوطأة الإيرانية الجديدة مع ورطة فلسطينية حادة، فإيران تتعرض لتهديدات قوية من الإدارة الأميركية الحالية، وهي تلملم أوراقها، وتنتظر إدارة جديدة تدرس خطواتها المقبلة حيال طهران، وفي الحالتين الموقف يبدو غائما، لا أحد يعرف في أي اتجاه يسير. هل في طريق الحرب، أم تعديل الاتفاق النووي والعودة إلى تفاهمات باراك أوباما مع طهران؟

تريد إيران أن تظهر لإدارة دونالد ترامب أن أي استهداف من جانبها قد يحول الشرق الأوسط إلى جحيم، ويجعل المنطقة أشد التهابا مما هي عليه.

وتعمل على دفع إدارة جو بايدن نحو طريق التفاهم، ووجدت في التلويح بجاهزيتها الداخلية وتعاون جهات إقليمية معها، جرس إنذار أمام الخيار الذي ستختاره واشنطن. جرس يحمل تهديدا ووعيدا، ولا يخلو من ترحيب بتهدئة غير مستبعدة مع بايدن.

إيران تريد أن تظهر لإدارة ترامب أن أي استهداف من جانبها قد يحول المنطقة إلى جحيم، ويجعلها أشد التهابا مما هي عليه

أما الورطة الفلسطينية، فهي تتعلق بأن حماس والجهاد، تأكدتا أن اتفاق إسطنبول مع السلطة الوطنية وما حمله من إشارات حول المصالحة وتقارب في الرؤى السياسية سوف يذهب بعيدا عن أهدافه، حيث تميل قيادة حركة فتح نحو تيار الاعتدال، وتخلت عن خطابها الصاخب إزاء رفض التطبيع، وترى من المهم أن تبدأ صفحة جديدة لدفع الإدارة الأميركية الجديدة لدعم حل الدولتين.

يؤدي هذا الطريق إلى تنحية حركة حماس عن المشهد السياسي وتظل في مربع المشاغبين والرافضين للسلام، لأنها لن تستطيع مسايرة السلطة الفلسطينية في المفاوضات، ومن الطبيعي أن تحتمي بجهة مثل إيران تتقاسم معها الخطاب الممانع للتطبيع وملحقاته، وهي تعتقد أيضا أن القوى التي تحتمي بها، مثل قطر وتركيا، لن تتخلف طويلا عن صعود هذا القطار، ويمكن أن تسقط منها في منتصف الطريق.

علاوة على أن محور الاعتدال العربي، مثل مصر والسعودية والإمارات، حاول احتواء القوى الفلسطينية المؤيدة لخيار المقاومة، وربما يبتعد عنها بحكم الأمر الواقع، وتقوده التطورات إلى ممارسة ضغوط على حماس والجهاد لمنعهما من التخلف عن مسار المفاوضات، حيث تتجه المنطقة للمزيد من التعاون مع إسرائيل.

يضرب التحام القوى الفلسطينية عمدا مع إيران في هذه الأجواء عصافير عدة بحجر واحد، فهو يظهر كل طرف كأنه يملك أوراقا رئيسية في المنطقة تردع عملية النيل منه، أو على الأقل تخفف من حدة الضربات التي يمكن أن يتعرض لها، بما يفرض إعادة النظر في خيار الحرب مع إيران أو قطاع غزة، وقد يجبر بعض القوى للتدخل لنزع فتيلها، لأن هناك خسائر مدمرة يصعب تحمل روافدها.

استحسنت طهران الردود الفلسطينية في الاحتفال بذكرى سليماني أيضا، لتغذية تيار التشدد والمقاومة، وأن الثأر آت لا محالة، ويشير تأجيج نيرانه إلى أن تأخره لا يعني تجاهله أو نسيانه وسوف يظل حاضرا في الذاكرة الإيرانية، وفي وجدان القوى التي وفّر لها قاسم سليماني أنواعا مختلفة من الدعم، في رسالة جديدة تحمل معنى أن رحيل الرجل لن يغيب منهجه في المنطقة، وإن طال الزمن.

4