"في بطن الحوت" قراءة مسرحية في معاناة المهاجرين غير الشرعيين

العمل يتناول موضوع الهجرة غير الشرعية والانتهاكات التي يتعرض لها المهاجرون في مراكز الإيواء.
الاثنين 2025/01/27
الهجرة نوع من الهروب

تونس – قدمت المخرجة المسرحية التونسية مروى المناعي العرض الأول لمسرحيتها “في بطن الحوت”، التي تعد عملا جريئا يعري معاناة المهاجرين ويلامس قضايا إنسانية عابرة للحدود.

و”في بطن الحوت” عمل مسرحي مستوحى من قصص قصيرة لأربع كاتبات هن إيفا بابيتش ودوروتيا شوشاك وسامية العمامي ومنى بن الحاج زكري، وهو من نص وإخراج مروى المناعي وإنتاج مشترك بين المسرح الوطني التونسي والمسرح الوطني الكرواتي برياكا.

ويتناول العمل موضوع الهجرة غير الشرعية والانتهاكات التي يتعرض لها المهاجرون في مراكز الإيواء من خلال قصص كل من عمر الشاب التونسي الذي هاجر عن طريق تركيا مدعيا أنه مهاجر سوري أملا في أن يتحصل على اللجوء ومريم الفتاة التي غادرت هربا من الوصم والعنف الذي يمكن أن تتعرض لهما في تونس في حال تم كشف حملها خارج إطار الزواج وفودونوشا الذي يرجح أن يكون من أذربيجان أو إحدى الدول المجاورة لها والذي رفض الإفصاح عن قصته الحقيقية وارتأى الحديث عن الطبيعة الإنسانية التي ترفض الركود وتبحث عن الحركة المتواصلة.

قضية شائكة
قضية شائكة

ويستلهم عنوان المسرحية رمزيته من قصة النبي يونس الذي وجد نفسه محبوسا في بطن الحوت، وفي المسرحية يتحول بطن الحوت إلى حالة من العزلة والتأمل والانبعاث الجديد بعد الأزمات.

وعلى مدى ساعتين من الزمن شاهد الجمهور بتمعن تفاصيل القصص التي نسجت بطريقة تمزج بين التمثيل والتصوير وتراوح بين الماضي والمستقبل، إذ أن قصص هؤلاء الثلاثة تم طرحها في إطار بحث أكاديمي تقدمه أستاذة إيطالية سنة 2051 لتعود من خلاله إلى الانتهاكات التي حدثت في ما سمي بـ”معتقل B42″ والعنف النفسي والتعذيب الذي تعرض له المودعون الثلاثة.

اعتمدت المسرحية على أسلوب الترميز بدءا بفعل الحمل الذي افتتح مشاهد هذا العمل والذي يرمز إلى تواصل البشرية من ناحية وضعف وضعيات بعض النساء الحوامل حسب السياقات التي يوجدن فيها من ناحية أخرى، بالإضافة إلى ما تحركه هذه الوظيفة البيولوجية في الأم من رغبة في المقاومة من أجل ضمان عيش كريم لطفلها.

ومن الرمزيات الأخرى التي افتتحت العرض أيضا، خيط النسيج الأحمر الذي نسج الممثلون من خلاله شبكة القوانين الدولية المنظمة لعيش الأفراد ولحقوقهم لتبين أحداث المسرحية وخطاباتها الهوة بين ما يوجد في القانون وما يعيشه أبناء دول الجنوب على أرض الواقع وكيف أن القوانين الدولية وجدت لحماية مصالح مراكز الهيمنة الغربية.

وقام العرض على مجموعة من المؤثرات الجمالية التي ساهمت في تبليغ رسالة هذه المسرحية التي تنتقد سياسات الهجرة في عدد من البلدان التي لا تحترم المعاهدات الضامنة لحق الإنسان في التحرك وفي العيش الكريم، فتم توظيف تقنية التعليق الصوتي واعتماد صور فوتوغرافية وفيديوهات، فضلا عن استعمال مؤشرات وأرقام حول مراكز إيواء اللاجئين وعدد المودعين وغيرها من المعطيات التي ساهمت في تبيان البعد الواقعي لهذا المشكل الذي يعاني منه التونسيون وغيرهم من بلدان حوض المتوسط خاصة.

وتعددت اللغات المعتمدة في المسرحية فطغى اعتماد اللغة الإنجليزية ثم العربية وبدرجة أقل الإيطالية وبعض الكلمات بلغات أخرى من ضمنها الفرنسية وهو ما ساهم في إضفاء طابع كوني على هذا العمل الذي جمع فنانين من تونس هم سنية زرق عيونه ونادية بالحاج وثواب العيدودي وعلام بركات، وكذلك من كرواتيا هم ماريو يوفيف وسيرينا فيرايولو وإيدي تشيليتش.

عنوان المسرحية يستلهم رمزيته من قصة النبي يونس الذي وجد نفسه محبوسا في بطن الحوت، وفي المسرحية يتحول بطن الحوت إلى حالة من العزلة والتأمل والانبعاث الجديد بعد الأزمات

ونجحت مروى المناعي في توجيه العرض نحو فضاء بصري ومضموني يوازن بين البساطة والعمق. ركز الإخراج على استحضار أجواء العزلة والبحث، حيث بدت خشبة المسرح أشبه بمساحة رمزية لـ”بطن الحوت”. واختارت أن تدمج في أداء الممثلين بين الواقعية والرمزية بأسلوب ذكي، حيث استخدمت الحركات الجسدية والصمت كأدوات أساسية لنقل المشاعر.

ويمكن القول إن هذه المسرحية هي عمل فني نقدي توعوي، من ناحية يكشف الستار عن معاناة المهاجرين غير النظاميين في بعض مراكز الإيداع وينتقد ممارسات الدول التي تنتهك حقوق الإنسان داخل هذه المراكز في مقابل توفير هذه الحقوق لأبنائها كالحق في التنقل بالنسبة للمواطنين الأوروبيين الذي ذكر كمثال في العمل.

ويمرر العمل من ناحية أخرى رسائل توعوية لمن يحلمون بالعيش الهنيء في الدول المتقدمة من خلال تقديم لمحة عما يمكن أن يتعرضوا له من تنكيل أو تمييز.

ومن خلال الدمج بين الثقافتين التونسية والكرواتية، أظهر هذا العمل المسرحي أن القضايا الإنسانية الكبرى تتجاوز الحدود الثقافية والجغرافية وأن الفنون قادرة على بناء جسور التواصل بين الشعوب.

والمخرجة مروى المناعي تميّزت بأعمالها الجريئة التي تتناول مواضيع معقدة مثل التطرف والهوية والصمود الإنساني. حازت أعمالها، مثل مسرحية “بلا عنوان” (2024)، على جوائز مرموقة من بينها جائزة أفضل سينوغرافيا وأفضل ممثلة في الدورة الثانية للمهرجان الوطني للمسرح التونسي “مواسم الإبداع.”

وحصلت المخرجة على درجة الماجستير في صناعة المسرح من جامعة يورك بالمملكة المتحدة إلى جانب تكوين أكاديمي معمّق في الأدب الإنجليزي والفنون الدرامية. عملت أستاذة مبرّزة في المعهد العالي للإنسانيات بتونس وأشرفت على ورشات تدريبية حول الكتابة المسرحية. شاركت في إقامات فنية دولية مع مؤسسات بارزة مثل دار الفنون بباريس وأكاديمية المسرح الأوروبي. وإلى جانب عملها في الكتابة والإخراج، تعدّ مروى المناعي ممثلة محترفة، إذ تعاونت مع نخبة من أعلام المسرح التونسي مثل الفاضل الجعايبي وجليلة بكار. وحظيت أيضا بالعديد من الجوائز اعترافا بتفوّقها الفني والأكاديمي.

14