في الملاعب ومن المدرجات

يجدر التأمل في لقطات التظهير السياسي، بدلالاته الأكثر عمومية، في ملاعب كرة القدم ومن مدرجات المشجعين، أثناء منافسات “كأس العرب” في كرة القدم التي جرت في قطر. فالموضوع الفلسطيني، برمزياته، يتسم بالعمومية دون التفصيل، ومن الخطأ التغاضي عن ارتجاعات الجمهور العربي بشأنه، لأن ما يُقرأ منها يدل على الكامن تحت ركام السياسات الرسمية، ومنها سياسة إسرائيل نفسها، إن كنا بصدد سطور موضوعية منزوعة الدَسم العاطفي أو الميل السياسي.
فبينما تميل الرسميات العربية في معظمها إلى تصفير مشكلاتها مع إسرائيل – إن كان لها مشكلة – تطفر من تحت الركام حقائق المواقف الشعبية، ولنا أن نتخيل أن سياسة إسرائيل ليست كما هي عليه الآن في جفائها حيال كل حقائق التاريخ ومعطيات الصراع، وبالتالي أن نفترض أن الحل الذي ارتضاه الفلسطينيون على 18 في المئة من أرض بلادهم التاريخية قد أنجز. عندئذٍ لن يكون الذي يطفر من تحت ركام السياسات، مثل ما يتبدى الآن للجميع، وهذه هي حصة تل أبيب من واجبات الدرس والمذاكرة، لاسيما وأن الشعوب، هي بشر أحياء، يعيشون ويشتغلون ولكل منها رأيه العام، بل إن كلاً منها يخضع لمؤثرات أيديولوجية أو سياسية مناهضة للتوجهات الرسمية.
كان الجزائريون أحرص من سواهم على التميز في ممارسة التظهير. وسرعان ما احتذاهم جزئياً التونسيون والمغاربة ثم جمهور النادي الأهلي المصري. وهؤلاء شباب من شعوب ذات أوزان ثقيلة. وسبب أن كان الجزائريون سباقين هو أن سياقهم السياسي العام لم يخالف رأيهم العام بخصوص قضية الفلسطينيين، ولم ينقطع فصولاً على مر المراحل، لاسيما وأن رأياً عاماً قديماً قد تأسس في الجزائر وظل كما هو ولم تقطعه سياسات جديدة. فمنذ “جمعية العلماء المسلمين” التي تأسست في مستهل العقد الثالث من القرن العشرين لم يتغير الخطاب الجزائري، وكان الساطع والمدهش أن الشباب من الجيل الجديد ما يزال يحمل بالقدر نفسه من الوهج، روح الآباء من مؤسسي الثورة التحريرية ومؤسسي الجمهورية. الأولون كانوا يشكلون بوصلة هذه الروح، والأخيرون كانوا أوفياء لوصايا الأولين. وقد ازداد الخطاب الجزائري – الفلسطيني زخماً، عندما أصبح موصولاً في التفصيلات بالخلاف المتصاعد مع المغرب. وفي الحقيقة، لا يفتقر أي بلد عربي من النُخب الاجتماعية السياسية الاستقلالية، والثقافية، التي عاصرت بدايات القضية الفلسطينية وناصرتها، وكان ذلك باتساع تاريخ وجغرافيا البلدان العربية من الخليج إلى المغرب العربي، إذ تأسس في كل بلد وعي شعبي تحرري رائع، ومنظومة إعلام لمناصرة الكفاح الوطني الفلسطيني. لكن ما أحبط الناس، فضلاً عن الممارسات السلطوية في كل مكان أيضاً، أن العنوان الرسمي للفلسطينيين أنفسهم بات مصدر إحباط للآخرين. غير أن السياسة لا تشطب الثقافة، ولا المدركات التاريخية، لاسيما عندما تدل الوقائع من الجانب الإسرائيلي على النكران الكامل لحقوق الفلسطينيين، دون أدنى اعتبار لمقاربات التطبيع وفتح العلاقة مع إسرائيل، في خطوات لم تلق شيئاً من التقدير ومن الخطوات المقابلة. فمثلما هذا العناد المتغطرس يكشف عجز السياسات الودودة، فإنه يُعلي من شأن الثقافة الاحتجاجية التي يعبر عنها الشباب. ففي النهاية هناك تيارات رأي عام إن لم يعبر عن نفسه جهاراً، فإن الأصوليين يجدون فرصتهم لكي يمارسوا خداع الناس، علماً بأن الأصوليتين المتطرفتين، الإسلاموية واليهودية، هما اللتان أوقفتا كل جانب، على قدم واحدة، بلا استقرار وبلا أفق وهذا ما يستحق القراءة من الجانبين العربي والإسرائيلي.