في الشتاء البرتقالي

من قديم، أحببت الأرياف أينما كانت، ولم يكن للمدن عليَّ مثل غوايتها. وكلما أوصلتني الدروب إلى عاصمة أو حاضرة، سرعان ما أتفقّد ريفها القريب، وقد عشقت كل ريف!
في أيام تونس، كانت جولة العصر الرمضانية، بالسيارة، خارج المدينة وفي أي اتجاه، لتمضية وقت الصيام بحُسن المشاهدة وصفاء الأفق، وإلى حيثما تُباع طازجة على جانبي الطريق، بعض خُضرة الزرع والغلال ومشتقات الألبان. وهكذا في الجزائر وسوريا ومصر. في مثل هذه الجولات، يغشى المرء إحساس بأن الريف غنيٌّ بنفسه وأن الناس فيه ينضحون بالخير، ونفوسهم نقية لم تلوثها عوادم السيارات. أما سقائف وبسطات معروضاتهم، على جانبي الطريق، فهي -بالطبع- في منأى عن حسابات الحوانيت في المدينة، والفلاحون أقل انفعالا وقلقا وتأثرا بالشكايات الاقتصادية فيها!
على الطريق الريفي شرقي الدلتا في مصر، كانت رحلتي أمس بمحاذاة ترعة الإسماعيلية. وفي هذه الأيام، يغلب اللون البرتقالي في أرياف المشرق والمغرب، ويُعرض البرتقال سيد الفاكهة، بفوائده ومباهجه، وما يجاوره من المندرين والكلمنتين. هو همزة الوصل التي امتدت تاريخيا، من مغرب الخارطة إلى مشرقها، بعكس أشتال المانجو والجوافة، وفي معيتها الباذنجان، التي وصلت محمّلة على السفن البريطانية، من الشرق الهندي إلى الغرب في مصر ثم تنقلت.
ولا يختلف اثنان، على أن الظاهرة الاستعمارية، أفادت من حيث لا يقصد الاستعماريون. أولئك كانوا يزرعون لأنفسهم وفي ظنهم أنهم سوف يظلون وأن أحفادهم سيحصدون. النخيل وحده، هو اختراعنا العربي، ورفيق مناخاتنا وأوقاتنا وفي ظلاله نُسجت حكايات الصحراء. فالبرتقالة برتغالية أصلا، واسمها العربي مشتق من اسم موطنها الأول. وأحد أنواعها في فلسطين، يُسمى حتى الآن “فالنسيا” منسوبا إلى الساحل الإسباني وتحديدا إلى المدينة الزاهية التي جاء منها.
ويقال إن الكلمنتينا التي تكاد تطفح على الطريق، بمحاذاة ترعة الإسماعيلية، حملت اسم أحد اثنين اشتركا في اختراعها بالتهجين، وهما الأب كليمون، الذي شغل قبل نحو 150 عاما، منصب مسؤول عن الزراعة في إحدى بلديات ولاية وهران الجزائرية، والطبيب “ترابو” وكان عالم نباتات فرنسي، وقد حملت الفاكهة اسمه في بقاع أخرى.
الريف في طبائع حياة الأمم، يمدّ يده إلى المدن ويصبو إليها ويغذيها، وقد أصبح في المراحل الأخيرة يدفع إليها جموعا من الشباب الذين ضاقت بهم مجالات العمل في الأرض أو عزفوا عنها. والفلاحون الوافدون إلى المدينة، يحملون قناعتهم وبساطتهم، إلى مرافق العمل المتواضعة التي يجدون فيها رزقهم.
في المرة الأولى، التي جلست فيها على أحد المقعدين في محل العصائر، في سوق شعبي في مدينة الشيخ زايد القريبة من القاهرة، طلبت كوب عصير برتقال كبير. استغرق الشاب الريفي “علي” نحو سبع دقائق في تجهيزه، سألته عن الثمن قبل المغادرة، فقال سبعة جنيهات. أي أن ثلاثة أكواب كبيرة بأقل من يورو. أعطيته ورقة العشرة، فإذا به يعيدها إليّ معربا عن رغبته في السماح هذه المرة. فهو لم يرني من قبل، وبالتالي فأنا ضيف. سألته عن أصله فأجاب، وعرفت أنه قادم لتوّه من الريف البرتقالي في كل شتاء!