فيلم "القيامة" دراما نفسية قاسية ومؤلمة

وحدها المرأة التي تنغمر عاطفيا يمكن أن تصبح ضحية الرجل السايكوباثي وهو يغرقها بالتدريج في عالمه حتى تجد نفسها محاطة بحالات وغرائب ومتناقضات مفاجئة ولا يمكن توقّعها أو التنبؤ بها، فلا تستطيع الخروج منها وكأنها في سجن منسي، ولكنه سجن غير مرئي بل يتطور بالتدريج لكي يصبح سجنا نفسيا صارما.
هذه المقدمة تنطبق على فيلم “القيامة” للمخرج أندرو سيمانس، وهو فيلمه الروائي الطويل الثاني بعد إخراجه عددا من الأفلام القصيرة والعمل منتجا ومونتيرا وممثلا.
يقدم لنا المخرج مارغريت (الممثلة ريبيكا هال) التي تعمل باحثة في البيولوجيا والتكنولوجيا الحيوية في شركة مرموقة، وها هي تمارس روتينها اليومي ما بين العمل وبين رعاية ابنتها ذات الثمانية عشر عاما، فضلا عن معاشرة صديق لها، لكنها حتى وهي تمارس رياضة الجري كأنها تسابق الزمن أو كأنها تطارد أحدا، إذ تبدو مشدودة الأعصاب لسبب ما مجهول.
التحول في هذا الروتين وهذه الرتابة سوف يقع بمجرد أن تشاهد ديفيد (الممثل تيم روث) الذي كانت قد فارقته منذ عقدين من الزمن، وكل ظنها أنه قد اختفى نهائيا من حياتها، لكن هلعها من مجرد رؤيته ونوبة الرعب العصبية التي تنتابها والتي تدفعها إلى درجة الصراخ على ابنتها بالحذر الشديد وعدم الخروج من المنزل، كل ذلك لا يقدم للمشاهد توصيفا دقيقا للسبب الكامن وراء رد فعلها الشديد لمجرد رؤية ذلك الشخص.

يتكرر ظهور ديفيد أمام مارغريت حتى تصبح وجها لوجه معه لتسأله لماذا يلاحقها، ولماذا يستمر في الظهور في حياتها فيما صارت هي تعاني من نوبات هلع شديدة تدفعها إلى بكاء هستيري، بينما يطمئنها ديفيد بأن طفلها ما يزال في بطنه وأنه يسأل عنها وأنه جاء ليصفي حسابا ممتدا لعقدين من الزمن ثم ينصرف.
هنا سوف يقع المشاهد في إشكالية لن تتضح معالمها الشائكة في أجواء شديدة القتامة من الدراما النفسية والانفعالات الصارمة، فمجاراة مارغريت سوف تقودنا إلى لحظات ضعف لا تستطيع التخلص منها عندما يطوّعها ديفيد لصالحه في كل مرة.
في مشهد اعتراف استثنائي سوف نكتشف الحقيقة عندما تبوح مارغريت بحقيقة الأمر أمام فتاة شابة متدربة تشتغل تحت إدارتها، فهي ببساطة شديدة قد وقعت في فخاخ عالم بيولوجي كان يعمل مع والديها، يوم لم يكن عمرها يتعدى ثمانية عشر عاما، وقد تسلل إلى حياة العائلة بلطفه وبساطته وطيبته حتى تقع مارغريت في حبّه، وهنا يبدأ بتغيير طباعها وعاداتها بالتدريج ويخضعها إلى تمارين في التحمل وتأنيب الذات حتى تحمل منه وهو الأمر الذي لم يتقبله على أمل أن تُسقط الجنين، ثم يمنعها من الولادة في المستشفى على أمل أن تموت هي والجنين في المنزل أثناء الولادة، لكنها تلد بسلام ويتحول حبها لديفيد الذي بدأت تتكشف طباعه المرضية العدوانية، يتحول ذلك الحب إلى طفلها.
وتروي مارغريت أنها خرجت في إحدى المرات إلى السوق تاركة الطفل عند والده، فلما عادت لم تجد الطفل بل وجدت بقايا أصابعه، فلما سألت أخبرها ديفيد بأنه أدخل الطفل في بطنه وأنه يعيش هناك، وصار يوهمها بسماع صوته وتلمس حركاته وهو ما أوصلها إلى حافة الجنون، فتركت كندا التي كانت تعيش فيها هاربة إلى الولايات المتحدة.
ها هو الجحيم يتجدد كما كان قبل عقدين فها هو ديفيد عائد إليها بنفس تلك النغمة الكارثية، كائن سايكوباثي يروّع ضحيته ويضرب على أصعب وتر فيها والأكثر إيلاما وهو وتر الأمومة وفقدان الطفل، ولهذا يعود لترويضها مجددا ويجبرها مرة أخرى على السير حافية القدمين وهي ذاهبة إلى العمل مثلا وغير ذلك من أفعال، حتى تنتهي القصة من وجهة نظر مارغريت أن تقع بينهما معركة بالسكاكين تنتهي باستخراج الطفل من أحشاء ديفيد.
بالطبع تساءل الكثير من النقاد لماذا واصل المخرج بناء الأحداث من وجهة نظر مارغريت مع أنها فاقدة للتوازن النفسي والعقلي وتحت سيطرة ديفيد الشخصية السايكوباثية المدمرة والخطيرة إلى درجة أن قتامة المشاهد وساديتها ووحشيتها قد أفضت بنا إلى مارغريت وهي تحتضن وليدها الصغير والذي يفترض أن عمره الآن أكثر من عقدين.
من وجهة نظر أخرى سوف يتم إغراق مارغريت في الوهم بشكل متتابع، الوهم بأن الطفل في أحشاء ديفيد وأنه يتحرك وأنه يتكلم وصولا إلى المفردات الجنونية من قبيل السير حافية وما شابه.
بالطبع يصعّد المخرج من درجة الانحراف النفسي الذي يعاني منه ديفيد كشخصية سايكوباثية ولا يترك أي مجال للشك في أنه يتحدث ويتصرف بتلقائية ومصداقية وأنه يمضي أوقاته لتمرير تلك السردية السوداوية المريرة التي احتشدت فيها قوة أداء الشخصية ممثلة في مارغريت والموسيقى والمونتاج والتصوير لتقدم لنا دراما نفسية قاسية ومؤلمة.
في المقابل يضيف هذا الفيلم إلى ذلك النوع من الأفلام السيكولوجية التي تقدم شخصيات سايكوباثية وشديدة الاضطراب ولكن هذه المرة مع الوصول إلى النهايات المروعة من وجهة نظر السايكوباثي نفسه ومعه الضحية، وهي هنا ضحية عاطفية وكائن تم ترويضه في سن مبكرة مع حسن نية بل وغباء تعترف به مارغريت من طرفها ومن طرف والديها اللذين سمحا لكائن فظيع مثل ديفيد بأن يجد له مكانا واسعا في حياتهم فيدمرها تدميرا.