فيلم "الثلث الخالي" أقاصيص قصيرة تخلق الصداقة بين الكاميرا والأماكن والبشر

يمتلك المخرج المغربي فوزي بنسعيدي تجربته السينمائية الخاصة، التي تهتم بتثمين الأماكن والشخوض انطلاقا من خصوصيات الشرق الأوسط والمغرب الثقافية وحتى البيئية، فهو إن كان يسرد قصصا روائية إلا أنه يوثق من خلالها جمال بيئته وخصوصيتها الثقافية والاجتماعية.
يتم حاليا عرض فيلم “الثلث الخالي” أو “صحراء” للمخرج المغربي فوزي بنسعيدي في عروض خاصة ببعض القاعات السينمائية الفرنسية، بعد عرضه ضمن فعالية “أسبوعي المخرجين”، ببرنامج الدورة الـ76 بمهرجان كان.
عبر هذا الشريط البديع يصور لنا المخرج فيلما ونصفا حسب أحد تصريحاته، فهو يعرض لنا مغامرة ورحلة مهدي وحميد اللذين يعملان في وكالة لتحصيل أموال القروض ونراهما يجوبان المناطق والقرى الفقيرة والبعيدة بالصحاري المغربية، والتي ربما لا تظهر على الخرائط.
هذا الجنوب المغربي الساحر الذي ينقلنا إلى أجواء الصحاري وعناقها المدهش مع الجبال، عبر سيارة البطلين القديمة والتي تتحول في العديد من المشاهد إلى دلالة، بل ومصدر للدلالات وخلق الكثير من الخطوط واللوحات البصرية المدهشة، ثم يختم المخرج فيلمه برحلة تشبه أفلام الكاوبوي.
قد يتفق البعض أو يختلف مع المخرج فوزي بنسعيدي وخاصة الجزء الثاني من الفيلم، حيث فجأة تحدث متغيرات غير منتظرة ولا متوقعة في جغرافيا الأحداث والأسلوب السينمائي. إذ لم يمهد أو يبرر المخرج تحركات قصته وكأنه عبر ذلك الفاصل من الغبار الذي تحدثه السيارة والذي يتعانق بضباب تزداد كثافته شيئا فشيئا وكأنه بوابة الخروج من الحلم الأول والانتقال إلى حلم آخر لا يُشترط أن يكون مشابها للأول ولا تكملة له. فقانون الحلم يكسر ويتجاوز كل القوانين بما فيها النظريات الفنية والجمالية.
في الفيلم عدة إشارات إلى الواقع الاجتماعي، وهناك لقطات كثيرة وأحداث صغيرة جدا وشخصيات ووجوه
الأهم أن هذا الجزء أيضا يظل على أرض المغرب الساحر ويقتات من شمسه وضوئه ويستمع لمفردات الطبيعة كخرير الماء وزقزقة العصافير، والأهم من ذلك الصمت بكل ما يحتويه من جماليات ودهشة.
فوزي بنسعيدي، رجل مسرح وسينما، وهو هنا أمسك بكاميرته السينمائية وأحس بها وهي أحست بهذه الطبيعة التي تحتضن جمالا بصريا ساحرا، ولكنها تحتضن أحلام وأمنيات ساكنيها البسطاء الذين يدفعهم فقرهم إلى الاستدانة والمجازفة بأخذ ديون ظنوا أنهم سيحققون بعض التوازن في حياتهم، ولكل واحد قصة مختلفة وشاهدنا كل واحد يحكي قصته بالكثير من الإيجاز منهم من استدان ليزوج ولده أو بنته، أحدهم أخذ سلفة لبدء مشروع فمرضت أمه وعالجها بالمال ثم ماتت، وآخر أسس مشروع تربية حيوانات وخراف لكنها ماتت كلها.
هكذا وبنوع من السخرية ونسيان كل هذه الكوارث يردد الجميع مسلمين بالقضاء والقدر ولا يجد مهدي وحميد ما يمكن مصادرته، مجرد أشياء تافهة جدا، وحتى عندما يقومان بمصادرتها وبيعها فهي لا تساوي الملاليم.
أدرك بنسعيدي أن فيلمه لن يكون جيدا بحكاية وعويل وحتى كسر تابوهات كما يفعل غيره وأن عليه أن يستثمر هذا الجمال الرباني المدهش لهذه الطبيعة وأهلها، وزار هذه المناطق عشرات المرات، ويبدو أنه نجح فعلا في اختياراته للأماكن والتوقيت.
نعلم جميعا أن المغرب وجنوبه كانا ولا يزالان من الأماكن المفضلة للتصوير السينماني، وقد جذبا المئات من المخرجين من كل أنحاء العالم ومنهم المخرج السينمائي العالمي بير باولو بازوليني والذي كان يردد أن سبب عشقه للشرق والمغرب بشكل خاص هو شمسه وضوؤه، وكذلك أهله ببشرتهم وتقاسيم وجوههم ونظرات عيونهم.
بنسعيدي جمع كل رفاقه ورفيقاته الذين عملوا معه في المسرح وأفلامه السابقة ومزجهم مع ممثلين غير محترفين
المخرج فوزي بنسعيدي، في هذا الفيلم، يبدو كمن فهم بازوليني وخاصة في الجزء الأول من الفيلم، فربط ما يشبه الصداقة بين كاميرته وهذه الأماكن وهؤلاء الناس، صور الوجوه وهي تبتسم وتضحك أو فقط هؤلاء ينظرون لبعضهم البعض أو حتى إلى الطبيعة أو الكاميرا، صور وجوه نساء وأطفال ورجال وكبار السن وكل حكاية صغيرة تناولها تصلح أن تكون فيلما.
كأن المخرج يعيد تذكيرنا وتذكير صناع السينما في العالم بهذا الفردوس السيwنمائي وبهؤلاء البشر بسمات ملائكية وهم سهلو القيادة والإدارة ويعشقون السينما، وأن يكونوا جزءا من عالمها الساحر، وربما فعلا ينتبه لهذه الدعوة مخرجون ومنتجون، وبطريقة غير مباشرة يوصي بضرورة تسويق هذه الثروة عالميا، فقد يكون الإنتاج السينمائي العالمي وقدوم شركات الإنتاج بمثابة بترول وذهب وثروة كبيرة تستفيد منها البلاد ويستفيد منها هؤلاء، فلا يحتاجون إلى المغامرة بأخذ ديون أو الغربة في المدن الكبيرة أو ركوب قوارب الموت.
من الرائع أن يكون لدى المخرجين والمخرجات العرب هذا الوعي بسحر السينما وخطابها الإنساني كما نراه في هذا الفيلم والعديد من الأفلام العربية التي عرضت مؤخرا في العشرات من المهرجانات العالمية، وبعضها أصبح يُعرض بقاعات العرض الأوروبية.
هذه النهضة السينمائية المشعة تأتي من سينمائيين لديهم الفهم بأن السينما ليست فضاء الحكايات والسرد ولا حتى الإغراء وتناول الجنس بصور فاضحة. في هذه الأفلام العربية المتميزة سنجد وعيا باللغة السينمائية وتقديم رؤى إنسانية وبطولات جماعية حتى الأماكن تلعب أدوار البطولة وتنطق بالدهشة.
بنسعيدي في هذا الفيلم جمع أيضا كل رفاقه ورفيقاته الذين عملوا معه في المسرح وأفلامه السابقة ومزجهم مع ممثلين غير محترفين، وبكيمياء إبداعية سنشاهد فيلما يصل في بعض الأحيان إلى عناقات شعرية شديدة الحساسية والجاذبية.
ولدى مهدي وحميد أيضا حكايتهما، لسنا مع اثنين من الأشرار بصدد ممارسة النصب والاحتيال لجمع ثروة، لكل واحد حكايته عرفنا جزءا بسيطا منها، أحدهم لديه طفلة تعيش مع أمه ويكاد يصاب بالصعقة عندما تقترح عليه أمه أن يُعطي طفلته لسيدة ميسورة لأنها تعجز عن تكاليف معيشتها، وهو أيضا عاجز ورغم ذلك يرفض بيع طفلته حتى وإن كان تحت مسمى التبني، الثاني وهو شخص ضعيف ومستسلم وعاش محروما وخائفا وخاضعا في البيت أو المدرسة أو الشارع.
هذه الرحلات إلى عالم الفقراء بما فيه من حرمان وقهر وأحلام مؤجلة ولكن أيضا سمعوا ولامسوا حكايات فيها التضحية من أجل الأطفال أو الآباء تبدو كأن المخرج زج بهما إلى رحلة تطهر، هما أيضا أبناء المدينة والتي قد تمسخ وتُعفن بعض الأرواح.
أغلب الحكايات في الفيلم ناقصة وفيها الكثير من التكثيف والحذف وتكاد تكون بعضها أقاصيص وبعضها مثخنا بالحمولات الدلالية والرمزية وبعضها فيه تعريضات لمشاكل اقتصادية واجتماعية، مثلا في اجتماع مديرة شركة تحصيل الديون مع المحصلين، يقول أحدهم إن الفقراء يدفعون ديونهم وإن تأخروا قليلا، ولكن المشكلة في الأغنياء فهم الذين يماطلون ويتهربون ولا أحد يستطيع مواجهتهم. تطرده مديرة الشركة فورا دون أي مناقشات، وهذه من المشاكل التي تعاني منها الكثير من اقتصاديات دولنا العربية، فالفقير يمكن تأديبه ومصادرة ما يملكه وحتى حبسه، ولكن الذين يحتمون بظهور قوية وأصحاب نفوذ تمنح لهم كل التسهيلات وحتى الإعفاء.
المخرج فوزي بنسعيدي، في هذا الفيلم، يبدو كمن فهم بازوليني وخاصة في الجزء الأول من الفيلم، فربط ما يشبه الصداقة بين كاميرته وهذه الأماكن وهؤلاء الناس
وفي حديث له يرى المخرج أن ثمة مشكلة كذلك أثارت اهتمامه وهي قسوة الفقير على الفقير في مجتمعاتنا وضعف التضامن بين الفقراء، وهنا الحياة تزداد قسوة ويتضخم الألم.
في الجزء الثاني، كأننا مع قصة عشق وهروب عاشق بعشيقته ويطارده متسلط مسلح، الحوارات هنا قليلة جدا وقصيرة، البطولة كانت للصمت وللنظرات وللمؤاثرات الصوتية والتي أيضاً تنساب برقة وهدوء إلى أن نسمع صوت الرصاصة ويكون قوياً، يسقط العشيق بمجرى الماء دون أن يصرخ ويمضي الجسد في رحلة كأنها رحلة إلى العالم الآخر، يمضي الجسد مع الماء دون أن يقاوم أو يرفض أو يتشبث بحجر أو جذع شجر ولا ندري ماذا سيحدث للحبيبة التي تركها مع أمه العجوز الضعيفة في بيت صغير أو بقايا بيت، فلا سقف له ولا حتى أبواب يمكنها أن تحمي أو تقاوم.
هذه الحبيبة في بداية رحلة الهروب نراها تترك غطاء الرأس وتمضي متحررة، لتفهموا هذا الفعل كما تحبون.. في هذا الفيلم العديد من الإشارات إلى الواقع الاجتماعي، وهناك لقطات كثيرة وأحداث صغيرة جدا وشخصيات ووجوه يبدو أنها سينما محضة أو سينما خالصة، وهي قابلة للتأويلات المتعددة أو كمتعة بصرية وتأمل نفسي وروحي يمكننا أن نستمتع به دون أن نفسده بالنقاشات واختراع تأويلات نقدية فاشلة.