فوضى الفتاوى
أهملنا جل قضايانا الكبرى وما نعانيه من مشكلات اجتماعية وهموم إنسانية، تركنا قضية أطفال الشوارع جانبا حتى وإن أطلت برأسها واقتحمت المشاهد الحياتية ليومياتنا عنوة، فهذا الطفل الذي يمد يديه بأكياس المناشف الورقية في إشارات المرور غضضنا عنه الطرف، وحتى ذاك القابع نائما أسفل كبارينا المهترئة لم نعره اهتماما، ومشاكل الطفلة الأنثى المتفردة بالقهر والعذاب والعنف في بعض مجتمعاتنا العربية نحيناها من ذاكرتنا اللحظية، وأكثر من هذا بكثير فقد تركنا القضايا المصيرية وتمسكنا باللمم من الأمور.
واللمم يا سادة هو القليل من الشيء أو الأمر اليسير، أصبحنا ننشغل بصغائر الأمور وتفاهتها بقدرة عجيبة. فما زالت قضية قيادة المرأة السعودية للسيارة قضية هامة سال من أجلها الكثير من الحبر، طافت المحاكم المتخمة بالقضايا التي تنتظر الفصل منذ أعوام، وعطلتها عن دورها الهام والمحوري وجرتها إلى هاوية اللمم من الأمور.
وبعض مشايخ الفضائيات اللذين كرسوا وقتهم الثمين وساعات “الهواء” والبث المباشر الغالية لللمم وصغائر الأمور. فالشيخ الأزهري الجليل صار يصرخ لأكثر من ساعة هواء متواصلة في قضايا غريبة، مثل فتوى “الحواجب” فالسائلة التي أرادت أن تتوب على يد الشيخ الجليل من سنوات الضلال والذهاب إلى مراكز التجميل لعله يمنحها صك غفران تطرق به أبواب الجنة.
والرجل سعيد بدور الواعظ يتحدث دون انقطاع، والمرأة تبكي على الهواء ثم تطلب رقم هاتف الشيخ لعله يستطيع مساعدتها في طريق الهداية!
ثم أردفت أخرى تسأل عن أمر أخطر وأكثر أهمية، فهل تدخل “الحمام” بالقدم اليمنى أم اليسرى؟ وهل تستعيذ بالله من الخبث والخبائث داخل الحمام أم خارجه؟ وهل ما قد سلف من أفعالها محرم أم لا وكيف ستحاسب عليه؟
وصاحب الجبة والقفطان يضحك بسخرية وهو يقول الاستعاذة بالخارج يا ابنتي.
وصوت الشيخ يعلو ويعلو وترتفع وتيرته في حدة وهو يحذر من وجود سائق خاص لدى بعض الأسر فالسيارة ـ وفقا لفتوى الشيخ ـ كالمنزل تماما لا يجوز أن يجتمع فيها رجل وامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان، والأسرة التي تستخدم سائق لديها لا بد من أن يكون مع المرأة حال وجودها بالسيارة “محرم” أي رجل من أقاربها لا يحل لها كالزوج والابن أو الأب أو الأخ أو العم أو الخال.
فهل هذا معقول يا مولانا؟ هل يترك أيا من هؤلاء أعماله للتفرغ لوظيفة محرم؟ وماذا إن كانت امرأة عاملة؟ هل تترك عملها؟
شغلتمونا باللمم وصغائر الأمور، فهل نترك الحاجب أم نشذبه؟ وهل نقود السيارة أم نستخدم سائق وهل ندخل الحمامات بالقدم اليمنى أم اليسرى؟ نستعيذ بالله تعالى من الخبث والخبائث بالداخل أم بالخارج؟ آلاف وآلاف من “هل” حائرة في أفواه السائلين لا تجد إجابات قاطعة، حاسمة.
ثم نتساءل كيف كنا أمة رائدة وأصبحنا في ذيل القوائم نتراجع في العلم والتكنولوجيا والسلاح وفنون القتال وحالة الطرق وعدد المخالفات المرورية وكل العلوم الحديثة، ثم نقف على أبواب الحمامات نتساءل القدم اليمنى أم اليسرى.
ارحمونا مشايخنا الأفاضل واستثمروا حب الشعوب للعمائم وجلابيب المشايخ في الرقي والتنمية ودفع عجلة الإنتاج.