فهيمة أمين.. فنانة مصرية تحرّرت من التابوهات في زمن الممنوع

"فهيمة أمين".. كتاب يوثق للفن المصري ويسرد تاريخ وطن.
الخميس 2021/11/18
لوحات لا تداعب مشاعر الطبقة البرجوازية

يمثل كتاب “فهيمة أمين.. من رائدات الفن التشكيلي المصري 1918 ـ 1984” والذي كتبه ابنها الفنان التشكيلي والمترجم ناجي موسى باسيليوس، أول كتاب يرصد السيرة الذاتية للفنانة المصرية منذ الطفولة وحتى رحيلها عام 1984، ويقدّم صورة متكاملة لأعمالها الفنية التي تمثل قيمة تاريخية إلى جانب ما تعكسه من قيمة فنية بحتة.

عدّ الفنانة التشكيلية فهيمة أمين واحدة من رائدات الفن التشكيلي المصري، فهي واحدة من ست فتيات فقط التحقن بالدفعة الأولى للمعهد العالي لمعلمات الفنون الجميلة العام 1938 ـ 1939 والتخصّص في الرسم والتصوير، لتدرس على يد إمي راغب عياد، وعدلات كامل، وعزيزة يوسف، وإليس تادرس، وكوكب يوسف والسيدة “راينر”، وذلك لمدة خمس سنوات، لتلتحق بعد ذلك بمعهد ليونارد دافنشي، وتتخرّج منه بتقدير امتياز.

وكتاب “فهيمة أمين.. من رائدات الفن التشكيلي المصري 1918 ـ 1984” الذي ألفه ابنها الفنان التشكيلي والمترجم ناجي موسى باسيليوس يأتي كتمهيد وخلفية لرؤية فنية تُتيح عقد لمحة تاريخية لتطوّر المشهد من الماضي إلى الحاضر على كافة مستوياته الاجتماعية والثقافية.

ويتتبّع الكتاب الصادر عن “دار سنابل” بالقاهرة مصير الفنانة عبر مرحلة زمنية من التحوّلات الاجتماعية والتطوّرات التي أخذت في التصاعد، مع تطوّر وازدهار عالمي شامل بين الحربين العالميتين، والتي أسهمت في انطلاق نهضة مصرية شملت نهضة نسائية تحقّقت للمرأة المصرية في العقود الثلاثة الأولى من القرن الماضي في صورة قفزات مهنية وثقافية واجتماعية، بفضل مجتمع نهضوي تنويري متكامل، يمثل اهتمامه برقي المرأة وبالفنون إحدى معالم ازدهاره الأساسية، والتي أخذت تتصاعد متزامنة مع بعضها البعض مشكلة ما يعرف بقوة مصر الناعمة.

◄ الكتاب يقدم رؤية فنية تُتيح عقد لمحة تاريخية لتطور المشهد المصري من الماضي إلى الحاضر على كافة المستويات الاجتماعية والثقافية

ويؤكّد باسيليوس الابن أن زواج الفنانة من الكيميائي موسى باسيليوس الحاصل على الدكتوراه في الكيمياء العضوية والكيمياء البيولوجية، وقد تخرج في جامعة جراتز وفينا في عام 1929، وقام بجولات في مختلف العواصم الأوروبية أثناء دراسته، لعب دورا مؤثرا في إثراء معرفة وثقافة الفنانة.

وقد تجلى ذلك في ممارستها للفن، حيث انغمست في اهتمامات زوجها وبادرت بالتعاون معه في إعداد الرسوم التوضيحية المصاحبة لمؤلفاته العلمية عن الطيور والأسماك وأيضا شغفه الشديد بمصر الفرعونية وأخناتون على وجه الخصوص.

رسامة ومؤرخة

يرى باسيليوس أن عمل الفنانة بالتدريس في المعهد العالي للتربية الرياضية كاد أن يستنفد طاقاتها الفنية، حيث كان المعهد يستحوذ على نصيب الأسد في تنظيم الاحتفالات الهائلة التي شكّلت الدعاية الرسمية لما سمي ثورة الثالث والعشرين من يوليو 1952، حيث يجتمع المئات من الفتيات والفتيان للقيام بأوضاع حركية استعراضية متناسقة، فيتمّ تصميم مئات النماذج من الشرائط والباقات والأردية الملونة التي تعطي انطباعات لونية متغيّرة مُبهرة مع كل التفاتة أو حركة جماعية متناسقة.

وهنا كان يقع العبء الأكبر على الفنانة التي تشكّل هذه التصميمات بعمل المئات من الوحدات من خامات مختلفة تتراوح ما بين الأقمشة والأوراق الملونة والأشكال الكرتونية والبلاستيكية وغيرها، وليت الأمر وقف عند هذا الحد، ولكن كلفت أيضا بإعداد المئات من الرسوم والاسكتشات بل والنماذج النحتية التي توزّع داخل قاعات المعهد، بينما أدرج بعضها في مؤلفات النشاط الرياضي والتي كانت مجالا جديدا على المكتبة العربية وقتئذ.

ويتابع “عندما استشعرت الفنانة الافتقاد للتعبير الذاتي، ولكي تستعيد زخم حماسها ونشاطها الفني السابق في ممارسة الإبداع التلقائي الحر قرّرت الالتحاق بالقسم المسائي بالمعهد الإيطالي للفنون ‘ليوناردو دافنشي’، وفي عام 1971 اتخذت اهتماماتها منحى آخر، إذ بدأت في استشعار عامل الزمن في تبديد مسيرة العديد من زملائها الفنانين دون تدوين أو توثيق تاريخي لمجرى حياتهم وأعمالهم، ومن ثم اختمرت في ذهنها فكرة إعداد قاموس يستعرض السير الذاتية للفنانين المصريين والأجانب وتمت طباعته ونشره عام 1971 بعنوان ‘قاموس المشاهير الفنانين التشكيليين الأجانب والمصريين'”.

وأنتجت أمين مجموعة متنوّعة من اللوحات الفنية، وعرضتها في عدد من المعارض التي أقامتها في مدينة القاهرة، وتباينت ما بين لوحات لأشخاص والمعروفة أيضا باسم البورتريه، ولوحات تصوّر الأجساد العارية، ولوحات الطبيعة والحياة البرية، ولوحات تعرض مشاهد من الحياة اليومية.

وقسّم باسيليوس أعمال الفنانة حسب خاماتها وموضوعاتها كاشفا عن تطوّرها التاريخي لتنوّع خاماتها بدءا من المسودات والرسوم التحضيرية بأقلام الرصاص والملونة إلى لوحات الألوان المائية والباستيل والغواش وأخيرا الزيتية.

ويقول “إذا بدأنا بالمسودات سوف نلقى طيفا واسعا من الأشكال والموضوعات، ومرجع ذلك يعود إلى كون هذه المسودات قد تم إعدادها لإنجاز تفصيلات وأجزاء من أعمال كاملة نفذت بخامات أخرى. وهنا سوف نجد دراسات للعديد من مظاهر الطبيعة من الأمواج البحرية والسحاب، والجانب الحي من الطبيعة التي تشمل الجوانب النباتية والحيوانية والإنسانية، وهو ما يذكّرنا بمنهج فنان النهضة ليوناردو دافنشي، وتحوي الدراسات بالطبع الوجوه الإنسانية والجسد البشري العاري، ذلك التخصّص البالغ الأهمية للفنانين والذي تمّ تحريمه في السبعينات من القرن الماضي، وذلك برغم ضرورة هذه الدراسة بنفس قدر دراسة التشريح للأطباء”.

ومع الانتقال إلى لوحات الفنانة الملونة بدءا بلوحات الوجوه الشخصية “البورتريه” سيطلع القارئ على عدد لا بأس به من اللوحات، التي نفّذ أغلبها بخامة الباستيل، ويليها عدد من الألوان المائية وأخيرا اللوحات الزيتية، وهي الأحدث عهدا.

هارمونية هادئة

يرى باسيليوس أنه مع عالم الطبيعة الساكنة أو كما تسمى بالطبيعة الصامتة “سوف نطل على عالم متسع للفنانة، نشرف على أفق بانورامي عريض، ذي خلفية فلسفية تتخطّى المفهوم الحالي البسيط، الذي أصابه الجمود والتحجر، فما نراه يشغل فناني الحاضر في لوحات الطبيعة الصامتة يكاد ينحصر في نماذج محدّدة من الورود والأزهار مع بعض الأواني أو بعض الفاكهة”.

ويضيف “كم يبدو هذا الاختيار المحدود غريبا ومفتعلا، لتعمّده حصر ما هو جدير بالتصوير في هذه الموضوعات فقط، وكأن مفهوم الجمال في أيامنا هذه قد أصابه الضيق، ليقتصر على موضوعات ذات جاذبية ذاتية خاصة، قد تداعب مشاعر الطبقة البرجوازية فقط، بينما الرسالة الحقة للفنان تكمن في امتلاكه لناصية القدرة الإبداعية التي بوسعها تحويل أي موضوع ومهما كان متواضعا إلى شيء جذاب بصريا، فيصبح جديرا بالرؤية والتأمل، فالجمال الفني يكتسب معناه من المعالجة الفنية ذاتها التي يضفيها على أي موضوع من موضوعاته”.

هكذا نرى الفنانة قد تناولت في لوحاتها الكثير ممّا يحيط بها، من أدوات الحياة اليومية من أواني الطهي أو حتى الأجهزة الطبية، إلى الآلات الموسيقية مع تشكيلة من الأواني الزجاجية والفخارية، وأيضا لم تفتها المجلدات والكتيبات، هذا إلى جانب الصورة التقليدية للورود والأزهار أما الفاكهة والخضروات فتضفي عليها بساطة خلابة، من درجات اللون التكاملي المتجانسة في هارمونية هادئة.

الفنانة اختصت في رسم الجسد البشري العاري الذي تم تحريمه في السبعينات، رغم ضرورته بنفس قدر دراسة التشريح للأطباء

وتكشف عن طبيعة الخامات من زجاج وفخار أو أنسجة نباتية أو أقمشة أو أخشاب.. إلخ، لتحقّق ذلك بأبسط اللمسات المرهفة، حيث يتمّ الانتقال وبشكل سحري هادئ بتداخل الألوان المشبعة بالوسيط المائي المعتمد على إضافة نقاط بالغة الدقة والرهافة، ولكنها تضفي تشبعا يبدو تلقائيا في انتشاره المشابه للنمو العضوي الثريّ.

ويواصل باسيليوس تحليلاته لأعمال الفنانة، حيث يرى أن التكوينات أو الموضوعات المحتوية على العنصر الإنساني لأمين كانت متحرّرة من الكثير من التابوهات التي تلاحق مبدعي اليوم، فتقيّد حريتهم في تناول الموضوعات، مثل العرايا المستحمات في الحمامات الشعبية، أو أصحاب الألعاب الشعبية الذين يتحلقون حول المقاهي الشعبية التي تغصّ بالسكارى والراقصات.

ثم هناك أيضا المعالجة الصريحة لبعض النصوص الدينية، بتحويلها إلى مشاهد مرئية مثل معجزة التهام عصا موسى لثعابين فرعون، هذا إلى جوار التكوينات المفعمة بالحركة مثل الأسواق وعمال البناء والمزارعين أو مشاهد ألعاب من المدينة التي اختفت الآن تماما مثل البيانولا والأراجوز وغيرهما.

أما بخصوص اللوحات الدقيقة للفنانة والتي تمثل نماذج الحياة البرية للطيور والحيوانات والتي تم تنفيذها بالأقلام الملونة والأحبار والأصباغ، فإنها تتميّز بقدر بالغ من الدقة والرهافة في إخراج التكوين وتنفيذه، وصدق تشكيل الجو المحيط والأمانة في تحديدها لملامح الكائنات بدقة.

أما اللوحات الزيتية التي أغلبها حديث العهد فيغلب على موضوعاتها تصوير وجوه الأشخاص، وقد تمّ وضع اللمسات بقوة، وقد راعت فيها الفنانة اتجاهات الفرشاة مع عضلات وملامح الوجه، وتتّسم تلك الضربات من الفرشاة بالثقة وعدم التردّد أو المعاناة في اختيار اللمسات أو اختيار الدرجات اللونية، التي احتفظت بالحيوية والطزاجة التي يتّسم بها الأسلوب التأثيري وهذا ليس بالمستغرب على من تمرّس على الأداء بالألوان المائية.

13