"فهرنهايت 451" عندما يتحول الاحتفاظ بالكتب إلى جريمة

يقدم فيلم ” فهرنهايت 451” (إنتاج 2018) صورة للمستقبل، حيث حكومة عالمية معلنة أو خفية تتحكم في مصائر البشر بعد الحروب والكوارث وتنظم لهم شؤون حياتهم، لتضمحل قيمة الأفراد تدريجيا ويتحولون إلى كائنات ليس عليها سوى السمع والطاعة.
وفي هذا الفيلم للمخرج الأميركي من أصل إيراني، رامين بحراني، سوف نعود بالذاكرة إلى تحفة سينمائية أنجزها أحد ألمع رموز الموجة الجديدة في السينما الفرنسية، إن لم يكُن هو رائدها على الإطلاق، ألا وهو فرانسوا تروفو الذي كان فيلمه الملون الأول الذي تم إخراجه في العام 1966 عن الرواية نفسها للكاتب راي برادبوري التي تعود إلى خمسينات القرن الماضي.
في أدب وسينما الخيال العلمي يشكّل المستقبل موضوعا محوريا يتم الاشتغال عليه منذ بواكير التجارب في هذا المجال، حيث تطرح ثيمة الحياة الإنسانية وكيف تتشكّل ملامحها، ليدخل العلم والتكنولوجيا المتطورة عنصرا أساسيا في ذلك مقابل صورة عالم ديستوبي قاحل هو صورة مقابلة للتطور الاستثنائي
ليس في الفيلم إشارة إلى تروفو ولا هو تحية لذكراه، ولكنه يبني معالجته الدرامية على نفس الأحداث والتحولات مع فارق أساسي، وهو أن فيلم تروفو أنتج يوم كانت التكنولوجيا الرقمية غير موجودة بعد، أما فيلم بحراني فإنه ينتقل بالأحداث إلى حقبة مراقبة الأشخاص رقميا وانتشار الشاشات العملاقة في كل مكان والبرمجة التي تتحكم بالبشر.
والقصة في فيلم بحراني كما عالجها تروفو، تتحدث عن عصر صار الكتاب وتراث الإنسانية بمثابة وباء يجب التخلص منه، وصار الاحتفاظ بالكتب جريمة وصار استذكار الماضي نوعا من الجنون، فهو زمن الحكومة السعيدة التي تفكر في صالح المجتمع وهي حقا تشبه إلى حد كبير حكومة الأخ الأكبر في رواية جورج أورويل الرائدة “1984”.
وتقوم فرق الإطفاء يقودها الكابتن بيتي (الممثل ميكائيل شانون) بملاحقة الكتب أينما تكون وحرقها وحرق المنازل التي توجد فيها، وأحيانا حتى حرق أصحابها وعدّهم أعداء وخطرا على المجتمع، وبهذا سار السرد الفيلمي على هذا المسار في مهمة لا تنتهي من مطاردة الخارجين على القانون من مقتني الكتب أو المحتفظين بها.
وفي موازاة ذلك سوف يتأسس خط درامي ثان من خلال شخصية أحد أهم مساعدي الكابتن بيتي، وهو مونتاك (الممثل ميكائيل جوردان) والذي يقوم بعمله على أحسن ما يرام حتى اليوم الذي يجري فيه تعقب امرأة تحتفظ بمكتبة كبيرة، وبدل حرق كتبها ومكتبتها تقرر أن تنتهي حياتها مع تلك الكتب فتحترق معها.
عند هذه الحبكة الثانوية يسيطر الفضول على مونتاك متسائلا بتعجب ما قيمة هذه الكتب؟ وما هو محتواها إلى درجة أن الإنسان يمكن أن يضحي بحياته من أجلها؟ وهو ما يدفعه لاستطلاع الأمر مع كلاريس (الممثلة الفرنسية من أصل جزائري صوفيا بوتيلا)، وهي فتاة مزدوجة الولاء، فهي عين الحكومة من جهة وهي عضو في جماعة سرية للحفاظ على الثقافة التقليدية والكتب والمكتبات.
هذا التحول الذي يمزج فيه الرعب بالعاطفة يجعل من الشخصيتين ومهمتهما الجديدة محورا دراميا أساسيا، لأنهما سيكونان في مواجهة الحكومة وفي مواجهة الكابتن بيتي ومخبريه. وبتحول مونتاك إلى خائن مطلوب للسلطات يتشكل خط سردي قوامه المطاردة والتحري لغرض الوصول إلى الشبكة التي يرتبط بها هو وصديقته كلاريس.
حفل الفيلم بكثافة في بناء الأحداث والشخصيات، لكن الخط السردي الرئيسي ظل وفيا للرواية وشكلها مع أنها ظهرت في حقبة لم تكن فيها حفلات شواء على شاشات عملاقة يتفرج عليها الناس، فيما صور الايموجي تتقافز إعجابا بعملية لإعدام الكتب وسحق أصحابها.
العالم الكابوسي في تلك الديستوبيا القاتمة يكمله التصوير الليلي الذي ميّز أغلب المشاهد الفيلمية، وهو حلّ إخراجي اعتمده المخرج إلى جانب كاتب السيناريو الأميركي من أصل إيراني أيضا، أمير نادري، وهو قبل ذلك مخرج ومنتج معروف.
أما على صعيد البناء المكاني، فيلاحظ بالفعل أن هناك عالمين يتصارعان ولا علاقة لأحدهما بالآخر، الناس المتشبثون بالكتب يعيشون في أماكن سرية نائية وبعيدة عن أجهزة التعقب والمراقبة، وتتردد على ألسنتهم أسماء كافكا وجون شتاينبك وشكسبير والدراما الإغريقية وجلال الدين الرومي وأبرز رموز الإبداع الثقافي والإنساني، فيما المجتمع برمته قد تم مسخه في مبان ضخمة قزّمت الشخصيات وسط شاشات تنتشر في كل مكان وجهاز المراقبة المتكلم يرافق الجميع.
على صعيد الإيقاع الفيلمي من الملاحظ أن القسم الثاني من الفيلم كان أكثر تماسكا من قسمه الأول، ففي البداية كانت هناك أعمال روتينية عادية ظلت تتكرر مشاهدها، لكن النصف الثاني شهد التحولات المهمة في مسار الشخصيات ودور كل من كلاريس ومونتاك في قلب مسار الأحداث وتحولها إلى مطاردة مع السلطات تنتهي بفظائع.
ربما كانت جرأة المخرج في اختياره رواية “فهرنهايت 451” تحديدا لإعادة تقديمها إلى الشاشة، والسؤال يتعلق بالشكل المختلف الذي قدمه ليفارق تلك التحفة الفنية التي قدمها تروفو على صعيد السينما الفرنسية، مع أنه وقع في بعض التكرار والرتابة إلاّ أنه قدّم عملا متكاملا ومتميزا.