فن الأكذوبة المزيّفة

فن الكذب على الصغار تعبير عن ظاهرة مقيتة وسلبية باتت تكتسح أسرنا العربية، ما أنتج جيلا مضطرب السلوك ومنبتا عن أصول التربية الأولى التي يظل ميزانها الأخلاق والعمل الصالح والصدق في القول.
الأربعاء 2019/03/13
لا تعلّموا أطفالكم الكذب

كثيرا ما يلجأ أحد الوالدين إلى فن الحيلة أو الكذب المزيّف لتدارك موقف معين أو لتلافي إحراج سؤال ما من أحد الأبناء. وهذا أكبر خطأ! ذلك أن الطفل سيعتقد في صحة الإجابة الأولى التي حصل عليها وستترسخ في ذهنه على أنها حقيقة مطلقة.

يلجأ العديد من الآباء للأسف إلى هذه العادة السيئة، بإدراك منهم أو دونه، ظنا منهم أن الموقف عابر وسيمضي طالما أن الطفل سيتجاوز الأمر وينساه كليّا. لكن ما يغيب عن هؤلاء أن الطفل في مراحله الأولى هو عبارة عن خانة فارغة، يتقبل الأشياء بمساوئها وحسناتها، بخيرها وشرها، بجمالها وقبحها، وغيرها من الصفات التي تطبع المجتمع. ولنا في المثل الشعبي التونسي خير دليل على هذه المقاربة التي تستحث الآباء على الانتباه إلى هذه العادة المخجلة “ولدك على ما تربيه وزوجك على ما تسنسو (على ما يتعود)”.

طرق باب هذه الظاهرة في الحقيقة ليس من بنات أفكاري أو لولع داعب مشاعري بصفتي متزمّتا من هذه الناحية ولا أطيق الكذب حتى أنني إذا كذبت يظهر سريعا على محياي، بل لأن الظاهرة أكاد ألحظها في يوميات صديق لي؛ فكلما جلسنا لاحتساء قهوة سرد عليّ بطولاته مع أحد أبنائه في فن الأكذوبة.

يميل صاحبنا إلى كل أنواع الحيل والخدع مع طفليه لمغادرة المنزل. ربما لشدة تعلقهما به. وهذا خطأه أيضا. عرضت عليه ذات مرة مصارحتهما وشرح الموقف لهما في كل مرة تتبادر إلى ذهنه فكرة الكذب عليهما فوعد بأنه سيفعل لكنه في المرة الأخيرة نطق صراحة بأن كل الحيل استعملها لكنها لا تؤتي أكلها.

هو صراع مع الذات أولا قبل أن يتحول إلى صراع بين الأب وابنه. فداخل كل منا شعوره الغريزي بأن لا طائل من الكذب طالما أنه لا يعتبر طوق نجاة. لكن رغم ذلك يُنجَز الفعل بطريقة لاشعورية وسرعان ما يتفطن الوالدان إلى أنه أسلوب فجّ وطريقة “صاغرة” في التربية الأسرية.

هذا ما أخبرتُ به صديقي في بداية حديثنا عن الحلقات الأولى لتربية ولديه على الصدق في القول والإخلاص في الإتيان بالفعل وألا نغفل لهم أي طلب إلا في حدود المعقول وبما تسمح به ظروفنا. أغاظه كلامي في البداية لكنه شعر بندم الرضوخ لبعض الهنات الغرائزية التي اكتسبها في طفولته وبقيت تلازمه.

مشاعر الكذب لا أحد منا يستطيع إخفاءها. لكن توظيفها كفن لمراوغة الأطفال اعتقادا منا أن هذه الحيلة المتقنة قد تنطلي عليهم قول فيه الكثير من الإسفاف والاستنقاص لمشاعر أطفالنا في التربية القويمة والنضج الفكري خصوصا لأجيال اليوم.

سعادتي لا توصف عندما يبادرني ابني آدم بسؤال عن وجهتي عندما أهمّ بالخروج. بكل بساطة أجيبه بأن مقصدي هو السوق إذا كان اليوم يوم إجازة أو العمل إذا كنّا في بداية الأسبوع. بدوره لا يفوته أن يقبلني على أمل اللقاء بي مساء. لكنه لا ينسى طلبه المعتاد أن أعود إليه محملا بقطعة الشوكولاتة. هنا موضع آخر لعلامة الصدق من عدمها. فعندما أعده حتما ستكون معي القطعة مساء. البعض من الآباء ربما لا يكترثون لوعد قطعوه من أجل تحقيق طلب مماثل لأحد أبنائهم ويجدون في ذلك الكثير من الحجج للهروب من السؤال عند عدم تحققه. فيما الطامة الكبرى عندما يضطر أحدهم إلى الكذب لإخفاء فعلته باختراق أكذوبة مزيّفة عوض المصارحة والصدق في القول.

فن الكذب على الصغار تعبير عن ظاهرة مقيتة وسلبية باتت تكتسح أسرنا العربية، ما أنتج جيلا مضطرب السلوك ومنبتا عن أصول التربية الأولى التي يظل ميزانها الأخلاق والعمل الصالح والصدق في القول. نصيحتي هي ألا تعلّموا أطفالكم الكذب حتى وإن كانت الأكذوبة مزيّفة.

21