فن الأراجوز يحتضر والحل في تدريب الشباب

بعد ربع قرن من العطاء والتنقل محليا وإقليميا لنشر البهجة بين الناس غيب الموت عم صابر المصري، تاركا موروثا فلكلوريا من عروض متنوعة في فن الأراجوز، وقد ساهم في إدراج هذا الفن المصري الشعبي في التراث اللامادي باليونسكو، بالإضافة إلى أنه عمل إلى جانب فرقته “ومضة” بمساعدة مؤسسها نبيل بهجت، للحفاظ على هذا الفن من الاندثار وذلك بتدريب الشباب على كيفية التعامل مع الدمى.
فَقد مسرح العرائس أكبر وأشهر لاعب أراجوز في مصر، وهو مصطفى عثمان المعروف فنيا باسم صابر المصري، الذي تتلمذ على يد الفنان القدير محمود شكوكو، وكان يعمل بفرقة “ومضة” التي حافظت على هذا الفن من الاندثار وأعادته إلى واجهة التراث الشعبي المصري، بتدريب الشباب داخل وخارج البلاد على كيفية التعامل مع تلك الدمى.
وأكد نبيل بهجت، أستاذ علوم المسرح ومؤسس فرقة ومضة، خلال حفل تأبين شيخ لاعبي الأراجوز، أن عم صابر كان “آخر الكنوز البشرية الحية لفن الأراجوز”.
وأضاف أن عم صابر انتصر لثقافة الشعب المصري وظل ينشر البهجة طوال حياته، حيث حمل الأراجوز من الأسواق والموالد والأحياء الفقيرة إلى أن وصل به إلى العالمية، وقبل أن يرحل تم الاعتراف عالميا بفن الأراجوز من خلال منظمة اليونسكو كأحد أهم الفنون البشرية التي يجب الحفاظ عليها من الانقراض.
فن يتحدى الاندثار
وكانت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، قد أدرجت، في نوفمبر 2018، “الأراجوز” في مصر على قوائم التراث الثقافي غير المادي.
وتعد عروض الأراجوز أحد الأشكال التي تنتمي إلى ما يعرف باسم “مسرح العرائس” في مصر، وتعتمد على استخدام دمية يدوية تقليدية في حكي القصص، يحركها شخص بأصابعه من خلف ستار ويستخدم فيها صوتا غير مألوف لشدّ الانتباه.
ويذكر أن الأراجوز هو النوع الثالث من الفنون المصرية، الذي يتم تسجيله في قائمة التراث الثقافي غير المادي في اليونسكو، ففي عام 2008 أدرجت السيرة الهلالية في هذه القائمة، وفي عام 2016 أدرج فن التحطيب (رقصة فلكلورية) كتراث مصري غير مادي.
عاش مصطفى عثمان محاولا إحياء فني الأراجوز وخيال الظل وإعادتهما إلى الحياة وإلى الناس والشارع، عمل لينتزع اعترافا محليا وعربيا وعالميا بهذين الفنين وبفنانيهما الحقيقيين من حملة الموروث الشعبي
ويشهد فن الأراجوز الذي يعود إلى العصر المملوكي (1250 ـ 1517) انحسارا في الآونة الأخيرة لقلّة عدد فنّانيه ولسطوة وسائل الإعلام الحديثة.
وتابع نبيل بهجت أن عم صابر المصري الذي كان يقول دائما عن نفسه إنه “أكبر مسرح وأصغر مسرح (…) أضحك بفنه ملايين الأطفال حول العالم، حيث ظل يحمل رسالة الأمل والفرح والبهجة حتى وافته المنية أوائل شهر أكتوبر الحالي. إن تتأمل في قسمات وجهه فلا ترى إلا الوطن.. تسمع صوت أمانته يحيط بالمكان، فتشرق وجوه الأطفال بالضحك حتى تغرورق أعينهم بالأمل”.
وقال أستاذ علوم المسرح “كان عم صابر يصنع من قلب الجوع والفقر والقهر الضحكات، ليحملها إلى الناس من دون مقابل؛ أن تصنع من قلب الجوع والفقر والقهر الضحكات فتلك عبادة، أن تحملها إلى الناس وتصلي صلاة الفرح وتلزم باب الفرح على الدوام فتلك عبادة، أن تحيا مثل المصباح في قلب العتمة لتنير لأهل الدرب طريقهم فتلك عبادة.. مولاي الحمل ثقيل، ففي صحبة عم صابر تشعر بأنك في حضرة عشق صوفي، هو إمام الفرح فيها، سألته عن شعوره بالضحكات التي تنهمر عليه ولا يراها؟ فأجاب: قلبي يراها.. ولسان حاله يقول: قلوب العاشقين لها عيون.. ترى ما لا يراه الناظرون”.
وواصل موضحا “عشت في حضرة عم صابر عشرين عاما أنهل من فيضه، أرتحل معه محاولا إحياء فني الأراجوز وخيال الظل، وإعادتهما إلى الحياة، وإلى الناس والشارع، عملنا كفرقة لننتزع اعترافا محليا وعربيا وعالميا بهذين الفنين وبفنانيهما الحقيقيين من حملة الموروث الشعبي، وكي نخلق جيلا يتلقى فن الأراجوز ليستمر.. يحيا به ومعه. رحلة حياة قضيناها معا لتكون فرقة ومضة نموذجا ملهما يضيء الحياة، وتؤكد أن لدينا ما يمكنه أن يعبر عنا. إنه البصير الذي أنار بصائرنا وعلّمنا صناعة الأمل.. إنه عم صابر”.
من هو عم صابر؟
ولكن من هو عم صابر الذي تم تصنيفه كأحد الكنوز البشرية الحية ويحمل في ذاكرته فنا مصريا خالصا، يحدثنا بهجت قائلا “ولد صابر المصري في أوت 1939 وتوفي هذه السنة (2019)، ضعف بصره منذ طفولته وفقده تماما سنة 2012، احترف فن الأراجوز منذ ما يزيد على خمسة وخمسين عاماٌ تقريبا”.
ويذكر أن أول من لفت انتباه عم صابر لهذا الفن كان الفنان محمود شكوكو الذي توطدت العلاقة بينهما في ما بعد، وبدأ رحلة تعلمه في الموالد وظل أكثر من عشر سنوات يقدم فن الأراجوز فيها متنقلا بين أرجاء مصر.
ويتابع “يقول عم صابر عنها: هي مدرستي الأولى التقيت فيها بفنانين أمثال نعمه الله العجمي الذي عُرف بفيلسوف الأراجوز، وكذلك محمود علي صالح، علي محمود، أحمد زُربه ومصطفى الأسود، ومنهم ومعهم تعلمت فنون الأراجوز، وعَرفت كل شيء عن هذا الفن الذي اخترته طريقا لحياتي، فقد كان بإمكاني أن أختار أي مهنة أخرى ألا أن حبي للفن والأراجوز هو الذي شكل حياتي”.
رافق عم صابر في مشواره الفني عددا من اللاعبين أمثال: سعد شيكو، محمود ألف صنف، صالح الجيزاوي، الفسخاني، فلفل، محمد كريمه، عبدالظاهر، وغيرهم.. وانتقل بعدها إلى شارع محمد علي ليجعل من مقاهيه وخاصة “التجارة” و”نجيب السواح” مستقرا له ثم انطلق من شارع محمد علي ليقدم فنه في الأماكن العامة والخاصة والمدارس وأعياد الميلاد وغيرها.
انضم عم صابر كعضو مؤسس إلى فرقة ومضة لعروض الأراجوز وخيال الظل والتي أسسها نبيل بهجت عام 2003 لإحياء فني الأراجوز وخيال الظل تأكيدا على أنه يوجد بمصر ما يمكن أن يعبر عنها في محاولة لخلق مسرح يعتمد على العناصر الشعبية العربية كأدوات أساسية تشكل لغته.
وحرصت الفرقة على أن تفتح أبوابها منذ اليوم الأول كمدرسة للراغبين في تعلم هذين الفنين فاستحدثت ورشات الأراجوز وخيال الظل. وكان عم صابر هو معلمها الأكبر ومرشدها الفني، حيث قدم من خلالها مئات الورشات داخل مصر وخارجها لنقل خبرته إلى الأجيال المختلفة، وتتلمذ على يده جيل حمل ما تعلمه منه ليبقى للعالم ولمصر وللذاكرة الإنسانية أحد فنونها.
وشارك في العديد من المشروعات والمبادرات التي أطلقتها الفرقة ومنها: مشروع إعادة الأراجوز إلى الشارع والذي بدأ منذ 2003، مشروع دراما في الفصل المدرسي والذي بدأ منذ 2007، مشروع “هنروح للناس مسرح ببلاش” في العام 2013، وشارك بعروضه في عمل مشروع الأرشيف القومي للأراجوز المصري والذي أصدره المجلس الأعلى للثقافة في سنة 2012.
وقدم عم صابر عددا من العروض أهمها مع فرقة ومضة: على الأبواب، حكايات الأراجوز المصري، حكمة الأراجوز، أراجوز في مزاد، هكذا تكلم الأراجوز، صندوق الحكايات، السندباد، جحا المصري وجحا الإيطالي، أراجوز دوت كوم، عرايسنا، ما أحلاها الأيدي الشغالة، علي الزيبق، أحلام ملك، جحا وحاكم المدينة، شعبيات، الفلاح الفصيح حكايات كتاب، التمساح، شارع المعز، ملاعيب شيحه، جحا والحياة، العرض الأخير، البطل، عن الحب عن الخوف نحكي، ما فيش مشكلة، أصل الحكاية إيه، قرّب واتفرج، بكره أحلى، ورحلة الأراجوز، وصندوق الحكايات وحكمة الأراجوز، وغيرها من العروض، وهي من تأليف وإخراج نبيل بهجت.
وقدم عم صابر هذه العروض في العديد من دول العالم، حيث مثل مصر رسميا في كل من الدول الآتية: إيطاليا، إسبانيا، فرنسا، اليونان، تونس، موريتانيا، الكويت، البحرين، الإمارات، وغيرها من البلدان.
كما قدم منذ عام 2007 وحتى وفاته مع فرقة ومضة عرضا أسبوعيا في بيت السحيمي يوم الجمعة من كل أسبوع بالمجان للجمهور. وهكذا ساهم في إحياء هذا الفن، وحصـل على العديـد من شهـادات التقديـر والـدروع من جهـات مختلفـة منها: وزارة الثقافة التونسية، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت، المكتب الثقافي المصري بموريتانيا، المكتب الثقافي المصري بفرنسا، والمكتب الثقافي المصري بالكويت. وكانت أهم الجوائز التي حصل عليها في حياته جائزة الكنوز البشرية الحية من الشيخ سلطان القاسمي في 2016، وكذلك تكريمه من الهيئة العربية للمسرح في 2015.
أطلق عم صابر عددا من الأمنيات قبل رحيله وكان آخر ما أطلقه من أمنياته بعد أن تجاوز الثمانين حيث قال “اليوم وبعد أن تجاوز عمري 80 عاما وفقدت بصري تماما أعلن أنني سأستمر في نشر السعادة والضحك لكل الناس، لم أفقد الأمل يوما في قدرتنا على صنع عالم سعيد، فلا تفقدوا الأمل في ذلك. أقول لكم لقد عشت حروبا وصراعات انتهت جميعها وبقي الإنسان، فلا يدفعكم الاختلاف إلى التخلي عن القيم الإنسانية. توقفوا عن صناعة الموت وافسحوا الطريق للتعايش والأمل والحياة. انبذوا الكراهية. أناشد الجميع حكاما وشعوبا بالتوقف عن صناعة الموت، لا تحكموا العالم بالخوف واليأس والجهل، واحكموه بالحب والأمل والعلم. إن مقياس تقدم العالم هو قدرته على إنهاء الصراع والقتل والعنف والمرض والجهل وما زال العالم يئن تحت ذلك كله، علينا أن نعمل جميعا نحو تحقيق تقدم يسعد الجميع لذا أناشد كل أطراف الصراع في العالم بوقف كل أشكال العنف والاضطهاد. ولنحمي الأطفال فهم الملّاك الحقيقيون لهذا العالم أعطوهم الحب والحياة ميراثا”.
وختم نبيل بهجت بالقول “هكذا عاش عم صابر حياته لمصر حيث لقب نفسه بالمصري، وكانت رسالته البهجة والفرح وأن يكون الجيل الجديد صالحا. هكذا رغم كبر سنه وفقدان بصره لم يتوقف أبدا عن نشر البهجة والفرح. كان نموذجا حيا للفعل الإنساني الذي نتمنى أن يعم البشرية إنه عم صابر آخر الكنوز البشرية الحية”.
فن الأراجوز أو القراقوز وهناك من يسميه الدمى المتحركة، هي كلمة ذات أصل تركي لكلمة “قرة قوز” والتي تتكون من مقطعين هما “قرة” بمعنى سوداء و”قوز” بمعنى عين، وبذلك يصبح المعنى العام لكلمة “قرة قوز” هو “ذو العين السوداء” وذلك دلالة على سوداوية النظر إلى الحياة.
وينقسم مسرح الأراجوز إلى مساحتين داخلية وخارجية، فمن الخارج هو عبارة عن عربة، أما من الداخل فالعربة عبارة عن مسرح بكل معايير البناء المسرحي في أبسط أشكاله، والعربة متنقلة بين الأحياء الشعبية حسب الموالد والأعياد.
وتجدر الإشارة، إلى أن عروض الأراجوز تصارع اليوم من أجل البقاء أمام زحمة الفضائيات وظهور الإنترنت من خلال بعض لاعبي الأراجوز القلائل الذين ما زالوا يجوبون شوارع وأحياء مصر الشعبية، لكنهم يأسفون على حال الأراجوز الذي بدأ يغيب عن الساحات ولا يظهر إلا نادرا في المناسبات، وهم اليوم يغنون “على الأراجوز يا سلام سلّم”.