فنان ليبي مثير للجدل يتضامن مع غزة بلوحة ملحمية

"النصر يدنو" لعلي المنتصر فن في خدمة النضال الإنساني.
الأربعاء 2024/06/19
محاكاة للواقع المعيش بعيدا عن المغازلة البصرية

من أولى وظائف الفن المعاصر الاشتباك مع قضايا الإنسان الراهنة، والتخلي عن الدور المتخفي، والانخراط في ما يحدث، كل فنان له رؤيته وأفكاره وتصوراته. ولعل القضية الفلسطينية وما يرافقها من تراجيديا مؤلمة تفوق الوصف من أبرز ما شحذ مخيلات الفنانين العرب، ليقدم كل منهم رسالته نصرة للإنسان الفلسطيني ضد آلة القتل.

أرتال الماجري

في خطوة تضامنية غير مسبوقة مع الشعب الفلسطيني أعلن الفنان التشكيلي الليبي علي المنتصر توقفه عن ممارسة نشاطه الإبداعي حتى تتحقق الرؤية ويكون النصر.

وفي سابقة نوعية وموقف تضامني نبيل يقف الفنان الليبي المثير للجدل علي المنتصر، المعروف بمواقفه الوطنية والثورية، أمام القضايا الإنسانية المحلية والعالمية وأمام كل هذا الصمت العاجز الذي يسود الأوساط الثقافية والفنية محليا وعربيا تجاه ما يجري من إبادة جماعية للفلسطينيين في قطاع غزة.

نضال فني

علي المنتصر خاض رحلته النضالية بإمكانيات وجهود فردية طيلة أربعة عقود محققا نجاحات نوعية
علي المنتصر خاض رحلته النضالية بإمكانيات وجهود فردية طيلة أربعة عقود محققا نجاحات نوعية

قبل إعلانه التوقف عن النشاط الفني فاجأ المنتصر متابعيه والوسط الثقافي بعمل فني تحت الإنجاز أطلق عليه اسم “النصر يدنو” تيمنا بنصر قريب للشعب الفلسطيني في غزة ولكل أحرار العالم، مصحوبا بقرار مصيري حاسم. فقد قال الفنان عبر صفحته على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك “وبهذا العمل سوف أتوقف تماما عن ممارسة النشاط الإبداعي حتى تتحقق الرؤية ويكون النصر”.

عند قراءة سطور هذا القرار الذي لا يخلو من شهامة ومروءة وإحساس بالمشاركة والمسؤولية تجاه القضية الفلسطينية، استوقفني القرار طويلا وأصبت بالحيرة والعجز، وحاولت استعادة محطات هامة من رحلة هذا الفنان الملهم والمتمرد والشغوف بالفن إلى درجة الجنون. تساءلت بذهول كيف جاء هذا القرار الحاسم والجريء؟ كيف لهذا الفنان المتيم بفنه إلى درجة الجنون والهوس أن يقدم على اتخاذ مثل هذا القرار؟ ومن منا لا يعرف من هو علي المنتصر الفنان؟

عند اللقاء بالفنان لا يمكن أن تفصل بينه وبين الفن، ومن الوهلة الأولى تدرك أنك تقف أمام حالة خاصة جدا وأنك بمحراب الفن النبيل والصادق. قصته قصة عشق أبدية رسمت بخطوط صارخة وعريضة مليئة بالمعارك التي خاضها الفنان بروح المقاتل الذي حمل على عاتقه رسالة ورؤية إنسانية وفنية لا تخلو من التضحيات التي سطر انتصاراتها وانكساراتها بدم القلب عبر رحلته كفنان.

 من منا لا يعرف علي المنتصر الفنان الذي جعل من الفن أسلوب حياة؟ ومن منا لا يعرف المنتصر ونضاله الطويل في نشر رسالة الفن الحقيقي والجمال؟ المنتصر الذي تخلى عن الكثير من ضروريات الحياة كصورة طبيعية للبشر، كالزوجة والأبناء، من أجل التفرغ التام لرسالة الفن والجمال. من منا لا يعرف المنتصر الذي جعل من اللوحة كيانا قائما بذاته يحترم ويقدر في كل الأوساط عبر رفعه دعوة قضائية بالمحاكم الليبية وسابقة نوعية ضد جهات حكومية في تسعينات القرن الماضي حول عمل فني، إذ  تم إهداء اللوحة إلى وزير لدولة عربية شقيقة ومن بعد تم إنكار حق الفنان الطبيعي في ثمن اللوحة.

ومن منا لا يعرف المنتصر الثوري المناضل الذي قدم مرحلة “الصراخ” (1991) وهي مرحلة هامة في تاريخ التشكيل الليبي تعج بالصراخ والرفض والتمرد رسمت في توقيت صعب في زمن أعتى أنظمة الحكم الدكتاتورية التي عرفها التاريخ الإنساني. المنتصر لم يلتفت ويعطي بالا لكل ما كان يشغل الأوساط الفنية والثقافية المحلية حول ما تقدمه الجهات العامة من صدقات الإذلال، فخاض رحلته النضالية بإمكانيات وجهود فردية طيلة أربعة عقود محققا خلالها نجاحات نوعية تضاف كعلامة بارزة في المشهد الثقافي.

رسالة الجمال

hh
مشهد مرتقب للنصر يقدمه الفنان بشكل معاصر في الفكرة والأداء الفني يكتفي عن استخدام الألوان بالأسود القاتم

ينشغل المنتصر بهموم الإنسان عبر ما يقدمه من إنتاج إبداعي تجاوز المحلية والإقليمية وصاحب الرؤى المنفتحة والعالمي. وقد سعى الفنان بجهود فردية إلى نشر رسالة الفن والجمال عبر تخليه عن كل أشكال العيش الطبيعي وتحويل بيته الخاص إلى قاعة عرض لتجربته الفنية، إذ فرد مساحة من المكان والوقت لاستقبال كل المهتمين بالثقافة والجمال كخطوة في الاتجاه الصحيح للمشاركة في إحياء وتفعيل دور الثقافة والفن في المجتمع.

ذهب الفنان الليبي بعيدا في نشر رسالة الجمال والدفع بالنتاج الفني ليكون متواجدا بقوة في أروقة الجهات العامة والخاصة من خلال تفعيل فكرة الاقتناء والاستثمار في الفن. وغير ذلك فقد خاض الكثير من المشاركات والمعارض الشخصية التي جسدت مساهمات وطنية في نشر رسالة الفن والجمال بصورة معاصرة.

 المنتصر هو ذلك الفنان الفارس النبيل يقف وسط المعركة ويستشعر قضايا إنسانية كبرى يرسم ملامحها بالكثير من الصدق والإحساس

كل هذا يجعل من حيرتي حقيقة متمددة رغم أهمية الحدث القائم والقضية الإنسانية الكبرى التي تتصدر المشهد الإنساني والتاريخي في ما يجري بالأراضي الفلسطينية المحتلة من إبادة لشعب بأكمله، وأمام ثبات وصمود أهل غزة وجدت نفسي أقف بكل فخر واعتزاز لهذا الفنان الذي يعكف هذه الأيام بمرسمه الخاص وسط العاصمة الليبية طرابلس على إنجاز عمل ملحمي مثير للاهتمام، يمكن أن نشعر بأهميته في ظل انتصارات الفلسطينيين، والتضامن الإنساني الكبير مع القضية من جميع شعوب العالم، وانهيار زيف الصورة الديمقراطية الحديثة للحكومات الغربية.

فرسان مع خيولهم الأصيلة التي ترقص فرحة بالنصر في مشهد درامي مفعم بالقوة والحركة، محاط بسرب من الحمام، تفرد أجنحة السلام في كل الأرجاء، معلنة بشائر النصر الخالد، ثمرة سنين من المقاومة والتضحيات، والتي اختزلت في مشهد ثلاثي الأبعاد خارج إطار اللوحة لرفات الشهيد الذي وضع على طاولة ملطخة بالدماء، في إشارة منه إلى دور الحكومات والسياسات العالمية في تهاونها مع القضية.

مشهد مرتقب للنصر يقدمه الفنان بشكل معاصر في الفكرة والأداء الفني يكتفي عن استخدام الألوان بالأسود القاتم محاكاة للواقع المعيش بعيدا عن المغازلة البصرية لإبراز أهمية وقوة الحدث من جانبه النضالي العظيم.

 المنتصر هو ذلك الفنان الفارس النبيل يقف وسط المعركة ويستشعر قضايا إنسانية كبرى يرسم ملامحها بالكثير من الصدق والإحساس بالمشاركة والانتماء ليجعل من الفن في أسمى صوره مقاومة.

13