فنانون عمانيون يفسرون الفن المفاهيمي انطلاقا من ممارساتهم الذاتية

الفكرة أهم من العمل الفني.. هكذا يؤكد الفنانون المفاهيميون.
الثلاثاء 2022/10/25
رسامون فضلوا الفكرة على جمال العمل

يرغب الفنان دائما في توصيل أفكاره ومخاطبة فكر المتلقي لذلك تراه يبحث عن الخامات المناسبة ويخوض أساليب مبتكرة للتعبير عما يجول بخاطره، ومن هذه الحاجة نشأ الفن المفاهيمي في الغرب ثم انتقل تدريجيا نحو القطاع التشكيلي العربي فصرنا نرى تجارب تراهن على جمال الفكرة المرتبطة بالتصغيرية والتبسيط.

مسقط - المتتبع للفن المفاهيمي التشكيلي يجد ذلك السفر نحو الفكرة الفنية مع ضيق تفسيرها، وقد يكون الأمر عكس ذلك في أحيان أخرى، وثمة أسس يعتمد عليها هذا الفن في جوهره، خاصة وأن الفكرة المراد إيصالها للمتلقي من خلال هذا التشكل الخارج عن المألوف تعتمد على التنصل من الواقع الجمالي والتجرد من حقيقته.

وتاريخيا ترتبط نشأة الفن المفاهيمي بالمعرض الذي أقيم في متحف ليفركوزن في ألمانيا عام 1969 وأطلق عليه اسم مفهوم. ومنذ ذلك الحين انتشرت التجارب التشكيلية المهتمة بالفن المفاهيمي الذي تصبح فيه الفكرة هي الهدف الفعلي بدلا من العمل الفني نفسه. وقد أحدث الفن المفاهيمي تحولات نوعية في مفهوم الفن الذي يعتمد على المهارة الفنية، ويهدف إلى إنتاج شيء جميل، وفي مفهوم العمل الفني الاستهلاكي، ووسائل التعبير الفني، فضلا عن دور الفنان.

وفي أصل هذا الفن هناك ما يطلق عليه بالتصغيرية والتبسيط، ولكن كيف يرى الفنان المتقن له تلك المفردات وكيف يفسر حقيقتها، وإلى أي مدى تعطي التفاصيلُ الفكرةَ حقها في الوصول إلى المتلقي؟ وهل تمنح الفنان طرح أفكار متعددة في واقع الفن ذاته أو تحاصره في فكرة واحدة لا يمكن تجاوزها.. تفاصيل كثيرة في هذا الإطار يفسرها لنا مجموعة من الشباب المتقن لهذا الفن.

معان لا متناهية

مجاهد المالكي: البساطة في الفن هي عدم وجود تفاصيل غير ضرورية
مجاهد المالكي: البساطة في الفن هي عدم وجود تفاصيل غير ضرورية

تقول الفنانة كوثر الحارثية معلقة على تلك التساؤلات “أؤمن جدا بوصف الفنان الروسي الشهير أندريه تاركوفسكي للصورة على أنها كناية.. حيث يستعاض عن الشيء بشيء آخر. يقول تاركوفسكي: للكشف عما هو حي يستخدم الفنان شيئا ميتًا، وللحديث عن اللامتناهي يعرض المحدود والمتناهي، ليس ممكنا تحويل اللامتناهي إلى مادة، لكن بالإمكان إيجاد الوهم باللامتناهي: الصورة. لذلك يمكن القول إنه يكمن في الصورة الواحدة عدد لا متناهٍ من المعاني العميقة والتفسيرات، تتجلى عند كل متلقٍّ بشكل منفصل ومختلف عن المتلقين الآخرين وهذا يعتمد على التكوين النفسي والفكري لديه، ومدى تقاطع العمل مع أفكاره ومشاعره وذاكرته والمحيط الذي يتواجد فيه.

وتضيف “ولأنه في الفن /يكتسب اللامحدود شكلًا/، فإنه يمكن أن يكون الشكل بسيطًا ولا محدودًا في الوقت ذاته، أي أن يعبر عن اللانهائي. التبسيط في الأشكال لا يحد من القدرة التعبيرية للعمل الفني، فإنْ تأمّلنا شكلا واحدا فقط في عمل ما قد يقودنا إلى الكثير من التأويلات والمعاني المبطنة، لذلك ليس الشكل البسيط حصارا للفكرة أو المعنى، بل هو باب مفتوح على معان لا نهائية”.

وتشير “أعتقد أن عملية الحذف أثناء إنتاج العمل الفني قد تكون أهم من عملية الإضافة في أحيان كثيرة؛ فالعمل المبسط الذي يحوي أشكالًا أقل يريح العين ويمنع تشتت انتباه المتلقي، إن التقليل في أشكال العمل يمنحه نوعا من السكون ويُدخل المتلقي في حالة من التأمل الهادئ بعيدا عن ضجيج الأشكال الكثيرة. كما أنه يعطي المتلقي مساحة للتخييل وتشكيل معان متصلة بأشكال اللوحة قد تكون غير مرئية فيها فكما يقول أوفيد ‘الفن يتألف مما هو غير ملحوظ أو غير مرئي'”.

مفتاح الوعي

التقليل في أشكال العمل يمنحه نوعا من السكون ويُدخل المتلقي في حالة من التأمل بعيدا عن ضجيج الأشكال الكثيرة
التقليل في أشكال العمل يمنحه نوعا من السكون ويُدخل المتلقي في حالة من التأمل بعيدا عن ضجيج الأشكال الكثيرة

يرى بعض الباحثين أن الفن المفاهيمي جاء كردة فعل نفسية على الحربين الكونيتين الأولى والثانية، والتطور العلمي والتكنولوجي، وكذلك التأثر بالحركات الفنية الحديثة التي ظهرت في القرن الماضي مثل السريالية، والتعبيرية التجريدية، وسعى هذا الفن إلى لفت الانتباه تجاه العالم وما يشهده من تفكك واسع النطاق وبالتالي مخاطبة الوعي البشري.

وفي السياق ذاته يقول الفنان سالم المسعودي ‎”يُنظر إلى الفنانين بشكل عام على أنهم صناع، وبالطبع نحن نصنع الأشياء، لكننا نفكر، ونشعر بشدة. وأعتقد أن التفكير والشعور هما أهم أجزاء الفنان، أهم من الصنع؛ لأن تفكيرنا يحفز على الصنع وينتج ما نصنعه”.

ويضيف: “في كثير من الأحيان كفنانين يمكن أن يتخطى ‎تفكيرنا الجوانب الأخرى لكوننا بشرًا، في الواقع يمكن أن يتخطى جميع الجوانب الأخرى للإنسان، يمكننا أن نركز بشكل كبير على العمل، على التفكير، حتى نفقد وعينا بما يحدث، لقد أدركت الآن أن الفن بالنسبة إلي هو مفتاح الوعي”.ويؤكد “في بعض الأحيان سنكتشف أفكارًا عادية مثل ‘أشجار النخيل مثيرة للاهتمام’، في أوقات أخرى سنكتشف شيئًا أعمق مثل أنماط التفكير التي تكمن بداخلنا ولم نكن نعلم بوجودها، وأحيانًا تكون أنماط التفكير هذه مدمرة وضيقة الأفق واعتيادية لدرجة أننا لم نكن على دراية بها لسنوات، يمكن للفن أن يضيء هذا الجانب الداخلي منا، ويجعلنا أكثر وعيا بأنفسنا”.

الوعي بأفكارنا مرارا وتكرارا يمكن أن يؤدي إلى تغييرات كبيرة، في كل من فننا وحياتنا
الوعي بأفكارنا مرارا وتكرارا يمكن أن يؤدي إلى تغييرات كبيرة، في كل من فننا وحياتنا

ويفسر قوله “الأفكار والمشاعر في أذهاننا تتدفق وتتصاعد باستمرار، يمكن أن يكون الأمر مرهقًا، وأحيانا ننجرف بعيدا، لكن صناعة الفن تسمح لنا بالوقوف ولو للحظة وجيزة في منتصف ذلك النهر ورؤية ما يجري حولنا، ‎وهذه الرؤية هي المفتاح، إذا تمكنا من رؤية أنماط الأفكار الداخلية هذه، فيمكنها البدء في التغيير”.

وفي نهاية حديثه يقول “يمكننا التخلص من الاعتقادات والعادات المدمرة لجلب المزيد من القبول والحب، ونرى أفكارنا على أنها مجرد أفكار، ويمكننا استخدام هذه المشاعر في صناعة وتكوين الفن، بدلًا من السماح لها بالتخييم في أدمغتنا والتحكم بزمام الأمور”. ويواصل “‎لنكن واضحين، الفن ليس سحرا، لم يتحول مزاجي على الفور إلى مزاج سعيد بمجرد أنني أدركت هذه الأفكار والمشاعر، والوعي لا يحل كل مشاكلنا للأسف. لكن الفن يمنحني لحظة من الوضوح، وخطوة في الاتجاه الصحيح، أعتقد أن الوعي بأفكارنا مرارا وتكرارا يمكن أن يؤدي إلى تغييرات كبيرة، في كل من فننا وحياتنا”.

ولا تبتعد الفنانة إسراء البلوشية وهي تضيف “ثمة مقولة تنص: إحدى مهام المثقف هي بذل الجهد لتهشيم الآراء المقولبة والمقولات التصغيرية، التي تحدُّ كثيرا من الفكر الإنساني والاتصال الفكري”.

وتنطلق في حديثها من عملها الفني “شمساتون”، وهو عمل مبني على هذه المقولة بأن هوية الإنسان من السهل أن تكون محاطة بمعان ومفاهيم معقدة ولكن البساطة أو تبسيط الفكرة في الفن المفاهيمي هي ما يجعلها ناجحة. وتقول “هويتي مبنية على ارتباط عميق بجدتي ولخصتها بشيء واحد: الذهب”.

وتوضح “كلما كانت الفكرة الأساسية بسيطة وخفيفة، كان فهمها أفضل. غالبا ما ينظر الناس إلى الفن المفاهيمي على أنه شيء يجب أن يكون معقدا، لكن هذا ليس هو الحال، فيسعى الفنان جاهدا إلى ربط الناس بعملك كيفما يرون ذلك، يسمح هذا للفنان بتقديم طبقات من أعمالهم بطريقة أعمق بكثير وبطريقة تتجاوز نيتهم، هذا هو جمال الإدراك بجميع أشكاله”.

ختاما يقول الفنان مجاهد المالكي: يمكن تعريف مفهوم البساطة أو التقليل في عالم الفن على أنه استخدام أقل عدد ممكن من العناصر لإيجاد أكبر تأثير بصري ممكن، ولتحقيق البساطة يجب على الفنانين فهم مبادئ التصميم وكيف يمكن استخدامها لنقل المعنى من خلال عملهم دون أي تعقيدات.

تاريخيا ترتبط نشأة الفن المفاهيمي بالمعرض الذي أقيم في متحف ليفركوزن في ألمانيا عام 1969 وأطلق عليه اسم مفهوم

ويضيف “يصعب تحديد مفهوم البساطة عند البعض لأنه ليس دائمًا يكون التصميم واضحا عندما يتم تبسيط الصورة، ولكن هذا يعتمد بشكل أساسي على الفنان ومدى مهارته في إيصال فكرته بأقل عدد ممكن من العناصر والألوان، ويوجد مثال جيد على ذلك في الرسم، حيث يمكن للفنان تقليل عدد الألوان المستخدمة في اللوحة أو حتى حذف عنصر واحد من أجل إنشاء تصميم أكثر فعالية”.

ويؤكد “في الواقع، يعتقد العديد من الفنانين أن تقليل عدد الألوان المستخدمة في اللوحة سيجعلهم أكثر فاعلية في نقل رسالتهم وأفكارهم، لذلك يمكن فهم البساطة في الفن على أنها عدم وجود تفاصيل غير ضرورية، وبهذا المعنى تتحقق البساطة عندما يقلل الفنان من العناصر المرئية ويركز على تلك التي تضيف معنى إلى العمل وتجذب انتباه المتفرج مباشرة إلى الفكرة الرئيسية للوحة الفنية”.

ويوضح قوله: لعله يتبادر إلى الذهن سؤال ما، هل البساطة تمنح الفنان العديد من الأفكار التي يمكنه استخدامها في لوحاته الفنية أم أنها تحاصره وتقيده بفكرة واحدة لا يمكن تجاوزها؟ والإجابة على هذا السؤال تتوقف على الفنان، هل يركز على فكرة واحدة في لوحته الفنية أم يريد توصيل أكثر من فكرة؟

ويبّين “من منظورنا وخبرتنا الشخصية نرى أن التركيز على فكرة واحدة هو الأفضل، حيث يساعد هذا الفنان على توصيل رسالته بشكل أكثر وضوحا ويساعد أيضا الناس على فهم وتقبل الفكرة التي يحاول الفنان إيصالها، أما إذا كان الفنان يريد توصيل أكثر من فكرة، فعليه تبسيط هذه الأفكار إلى أقصى درجة وعدم الإكثار من استخدام الألوان حيث سيزيد هذا من تشتت المتفرج وسيصعب عليه فهم وتلقي هذه الأفكار، لذلك فإنه بكل تأكيد يمكن تطبيق مفهوم البساطة في الفن ولكن يجب أن يتم بترتيب وتنظيم واضح ومحدد للأفكار المطروحة”.

13