فنانون أردنيون وإيطاليون يحتفون بفن الموزاييك في عمّان

منذ قرون خلت كان فن الفسيفساء دارجا بشكل كبير في مختلف الحضارات (روما ومصر والحضارة الإسلامية وحضارات أميركا اللاتينية...). ورغم النظرة الدونية والمتعالية التي تعامل بها عصر النهضة الفنية في أوروبا مع هذا الفن تمكّن، بفضل أجيال من الفنانين الحداثيين، من تقديم الجديد. وهو ما يؤكده معرض جديد في الأردن.
عمّان – منذ أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين وفي إطار الثورة الشاملة في الفنون عامة على المفاهيم الأكاديمية للفن الأوروبي وتراث عصر النهضة والعودة إلى دراسة الفنون القديمة التراثية، سواء في الحضارة الأوروبية أو غيرها من الحضارات، ظهر بعض الفنانين الرواد في تناول فن الفسيفساء العريق تناولا مغايرا بالكامل لما كان سائدا في القرن التاسع عشر من تناول هزيل محدود يدور في حدود الصنعة والمهارة الحرفية لا أكثر.
ويزخر الأردن بتاريخ مهم في هذا الفن تثبته العديد من الحفريات واللقى الأثرية، لكنه تطور مع مرور الزمن ليتخذ مسارات تحديثية، لا تغفل ترابطه في مختلف أنحاء العالم، وهو ما يسعى لإثباته معرض فني في عمّان.
جماليات الفسيفساء
تجلّت جماليات فن الموزاييك (الفسيفساء) في معرضين جماعيين أقيما خصيصا لهذا النوع من الفن في المتحف الوطني الأردني للفنون الجميلة، حمل الأول عنوان “المدن اللامرئية.. مأدبا ورافينا”، وجاء الثاني بعنوان “مع الموزاييك.. المعاصرة في رافينا”.
اُستوحيت فكرة المعرض من كتاب “المدن اللامرئية” لإيتالو كالفينو الذي يشبه فهرسا للمدن، يسردها المؤلف متنقلا في ما بينها كما لو أنه يسرد حكايات من “ألف ليلة وليلة”، فلكل مدينة قصة وعوالم تنطوي على السحر والجمال، لذلك مثل المعرض دعوة إلى اكتشاف جماليات هذا الفن وما يفتحه أمام الفنانين من آفاق إبداعية، وبخاصة في مدينتَي مأدبا الأردنية ورافينا الإيطالية.
واشتمل المعرضان على أعمال ذات تصاميم وأشكال عصرية نُفذت بتقنية فن الفسيفساء الذي يُعَد من أقدم الفنون التي عرفتها الحضارات، ويقوم على التلوين عبر قطع الزجاج متناهية الصغر التي تتم ترتيبها بدقة لإنجاز الشكل المطلوب.
ويعتبر الفسيفساء فنا وحرفة في الوقت نفسه، إذ يقوم على صناعة المكعبات الصغيرة واستعمالها في زخرفة الفراغات الأرضية والجدارية وتزيينها عن طريق تثبيتها بالملاط فوق الأسطح الناعمة وتشكيل التصاميم المتنوعة ذات الألوان المختلفة، ويمكن استخدام مواد متنوعة مثل الحجارة والمعادن والزجاج والأصداف وغيرها.
وفي العادة يتم توزيع الحبيبات الملونة المصنوعة من تلك المواد بنحو فني ليعبر عن قيم دينية وحضارية وفنية بأسلوب فني مؤثر وهو من أقدم فنون التصوير.
وقدم عدد من الفنانين المشاركين بالمعرضين لوحات تجسد جماليات الطبيعة والعمران، وتطرح موضوعات تتعلق بالبيئة، وتصور المدن الأثرية القديمة، ويتم إنجاز هذه اللوحات برسم تخطيط أولي للشكل، ثم لصق القطع الزجاجية الصغيرة فوقه وتثبيتها عبر مواد لاصقة. وتتنوع الألوان الزاهية والأشكال الحيوية في هذه اللوحات، لاسيما أنها تعبر عن الأزهار والأشجار والطيور.
واتجه فنانون آخرون إلى استخدام لون واحد من الفسيفساء لرسم لوحات تجريدية ذات أبعاد هندسية، وهو ما وسم أعمالهم بالغموض والرمزية، فمن المتعارف عليه أن فن الفسيفساء يقوم على تعدد الألوان.
تنوع الأساليب
في عدد آخر من الأعمال عرضت منحوتات رباعية الأبعاد منها ما غطّته الفسيفساء بأكمله ومنها ما غطت أجزاء منه، وجاءت بألوان معتقة، وأشكال رمزية، كدوامة تمتد كأنها بساط على الأرض، وكذلك العمل التركيبي المكون من سطول الماء التي تغطي وجوهها قطع من الزجاج الفسيفسائي الأزرق المتموج.
وهناك أعمال أعاد فيها أصحابها إنتاجَ لوحات قديمة من هذا الفن برؤية عصرية، فقد عُرف الموزاييك في الألف الثالثة قبل الميلاد، وفي زمن الإغريق والرومان القدماء تطور هذا الفن وأصبح قادرا على تصوير الأنماط والرموز الواقعية، كما في لوحة الفسيفساء الشهيرة لشجرة الحياة في مدينة مأدبا، والتي اُستوحيت في عدد من أعمال المعرض.
وقد شكلت الفسيفساء حضورا واسعا في التاريخ القديم والحديث فعرفتها بلاد ما بين النهرين في معبدي “أور” و”أورك” في الوركاء الذي يعود إلى الألف الثالثة قبل الميلاد، وانتشرت في جميع أرجاء الإمبراطورية الرومانية الغربية وإلى سوريا وحوض البحر المتوسط وشمال أفريقيا وفرنسا وذلك ما بين القرنين الأول والثالث الميلادي.
المعرض دعوة إلى اكتشاف جماليات الفسيفساء وما يفتحه هذا الفن أمام الفنانين من آفاق إبداعية بين الأردن وإيطاليا
واستمر استخدام هذا الفن بكثرة حتى قدوم الدولة الإسلامية، حيث قام الفنانون المسلمون باقتباس هذا الفن واستخدامه في زخرفة وتزيين المساجد والقصور وخاصة في عصر الدولة الأموية، ومن الأمثلة عليها قبة الصخرة المشرفة وبعض القصور الأموية في سوريا وصور مثل قصر المنية وعمرة وغيرها. وامتد ذلك إلى العصر الحديث حيث يتم استغلالها عبر تنفيذ لوحات فنية كبيرة لتزيين الجدران العامة أو المباني مع استعمال الفصوص الحجرية أو الزجاجية.
وقدم المعرض بعض الأعمال على جدار كامل يضم أشكالا مصغرة منفذة بالفسيفساء، من بينها عمل يصور مجموعة سابحة من نجوم البحر بدت بألوانها الزهية وطريقة عرضها كما لو أنها تجري مع مياه البحر بخفة.
وهناك مجموعة من اللوحات نفذها فنانون من الأردن ومن مدينة رافينا الإيطالية، حيث قاموا بإعادة إنتاج أعمال فنية من المجموعة الدائمة للمتحف الوطني الأردني للفنون الجميلة، محوّلين اللون إلى قطع من الفسيفساء.
وممن شارك في معرض “المدن اللامرئية”: سونيا الطوال، بهاء جانخوت ومحمد جميل (الأردن)، وآنا فيليتا، ألينكو أوبرا، باربارا ليفراني، كوكو، أليسا بريغيو وفيليا غاروني (إيطاليا).
أما المعرض الثاني فشارك فيه فنانون من إيطاليا من بينهم: دوليانو بابيني، لوكا بربريني، كينا بوغادانوفا، ماركو برافورا، جيوفانا غالي، ستيفانو مازوتي، ألكسندرا ميتيفا، سيلفيا ناديو، فيلسي نيتولو، ماركو بيلزولا، سوزان سباهي ودانييل يسترادا.