فلسفة نيتشه وحلم هتلر حاضران في مجزرة نيوزيلندا

للنزوع إلى الإبادة جذور فكرية تراجعت حدّتها كثيرا، وإن بقي لها وجه إقصائي يسفر عن نفسه أحيانا في موجات غضب، وسرعان ما تواجهه ردود فعل إنسانية في أوروبا نفسها.
الأربعاء 2019/04/03
الإبادة فكر تراجعت حدّته لكن وجهه العنصري يظهر أحيانا

حلم الفيلسوف الألماني فريدريش نيتشه بمجتمع المتفوقين لا مكان فيه للعجزة والمرضى والضعفاء، وألهمت هذه الأفكار الزعيم النازي أدولف هتلر الذي آمن بفلسفة نيتشه وارتكب الجرائم النازية لنزعة عنصرية تميز بين الشعوب. وقبل هتلر وحتى بعده ارتكبت بسبب هذه المعتقدات إبادات شعوب وجرائم حرب وانتهاكات غربية باسم المحافظة عن المصالح والتفوّق على حساب الأعراق والشعوب الأخرى تعزيزا لمعادلة القوي والضعيف. وكانت فلسفة وأيديولوجيا التفوق ملهمة أيضا لمرتكب مجزرة المسجدين في نيوزيلندا منذ أيام، ما يشير إلى أن النزوع إلى الإبادة يمتلك جذورا فكرية تراجعت حدّتها كثيرا، فيما بقي طابعها الإقصائي أو العنصري يبرز في موجات غضب من وقت إلى آخر.

يحلو للبعض من المهزومين وغير المتحققين، والطامحين إلى الالتحاق بذيول الآخر، تحرّي مواضع الضعف في ثقافتهم وإبرازها، وتسليط أضواء على ممارسات سيئة فردية أو جماعية محدودة وتعميمها. ليس بهدف النقد الذاتي، وإنما للاستدلال بها على إثبات جهالة المجتمع، واستعصائه على التطوّر، بل الطعن في جوهر الدين. وهذه بضاعة لها رواج في أسواق تفضّل أن يكون المورّدون من العرب والمسلمين. وفي هذا عمى بصر وبصيرة، وشروع في تقديم أوراق اعتماد مُذلّة لنيل الرضا، ومراوحة ثنائية بين مازوخية يؤكدونها بجلد الذات، وسادية تجاه مجتمعات انسلخوا عنها، ويستحبّون طعنها برماح مسمومة لا ترتد أبدا لكي تتوجه إلى النيْل من ثقافة مجتمع يأويهم.

ولم تنل جريمة الإرهابي الأسترالي المقيم في نيوزيلندا برينتون تارانت، في هجومه على مسجدين بمدينة كرايستشيرش الجمعة 15 مارس 2019، ما تستحق من اهتمام هؤلاء المثقفين. وعلى الرغم من قتله 50 مسلما ينتمون إلى فلسطين ومصر والسعودية والهند وتركيا والصومال وباكستان وماليزيا وإندونيسيا وبنغلاديش وجرح أكثر من 40، فقد صرفوا الأنظار عن الجذور الثقافية لهذه الجريمة، بالإشادة بالموقف الإنساني لرئيسة وزراء نيوزيلندا جاسيندا أرديرن، إذ تضامنت مع المسلمين، في انحياز مسؤول إلى الضحية، وأعلنت في 25 مارس 2019 تشكيل لجنة تحقيق ملكية في أسباب وتداعيات الهجوم على المسجدين.

لا يُتهم الدين المسيحي بالمسؤولية عن تحريض الإرهابي الشاب (28 عاما) على جريمته. هذا الزعم لن يذهب إليه مفكر مسيحي، ولن يجرؤ عليه مسلم ممن يسارعون إلى توجيه أصابع الإدانة بطعن الإسلام، كلما ارتكب سفيه مسلم جريمة دون جريمة الإرهابي الأسترالي المؤمن بتفوّق العرق الأبيض.

بعد زوال دخان المجزرة، راجعتُ دراما الحادث، واكتشفت أن الشاب ليس مجنونا، وأنه خطط للجريمة بهدوء، ولعله أراد توثيقها، فثبّت على رأسه كاميرا. وكان يستمع إلى الموسيقى وهو يقود سيارته إلى مسرح الدم، وسحب بندقيتين ومشى مسافة قصيرة إلى المسجد، وبدأ إطلاق النار لبضع دقائق، وخلال هذه الفترة عاد إلى السيارة؛ ليغيّر البندقيتين ويرجع إلى المسجد، ليطلق النيران على أي شخص يبدو أنه لم يفارق الحياة. هكذا إذن وقعت الواقعة بدم بارد.

الجريمة مؤشر على سريان فكر استعلائي لا ينجو منه من أصيبت أرواحهم بالعطب في الغرب
الجريمة مؤشر على سريان فكر استعلائي لا ينجو منه من أصيبت أرواحهم بالعطب في الغرب

تتسق هذه الروح الانتقامية مع إعلان القاتل أن المهاجرين “غزاة”، جنس أدنى بالطبع من سوبرمان تحمّس له نيشته، في حلمه بمجتمع من المتفوّقين، ويخلو من العجزة والميؤوس من شفائهم ومن لا نفع لهم، فوجدت هذه التعاليم والأحلام هوى في نفس الزعيم النازي أدولف هتلر، وحاول تنفيذها انطلاقا من إيمانه بأن الجنس الآري هو الأسمى، وأنّ ألمانيا فوق الجميع.

إذا تعلق الأمر بالجريمة التي شهدتها نيوزيلندا، فإن الإدانة تخصّ الإرهابي وحده، ولا تمسّ دينه وقومه. وإن بقيت الجريمة مؤشّرا على سريان فكر استعلائي لا ينجو منه الذين أصيبت أرواحهم بالعطب في الغرب، ويشعرون بالاستلاب له، فلا يفرقون بين خطأ فردي لمسلم ولو لم يولد في الجغرافيا العربية، ودينه الذي لم يخرج من أتباعه شخص مصاب بالبارانويا، مثل هتلر الذي أدخل أوروبا في حرب أفنت العشرات من الملايين، ودمرت العشرات من المدن.

لم يشعل العرب والمسلمون، في أي وقت، حريقا كونيا كارثيا يماثل جحيم الحرب العالمية الأولى، ومن ضحاياها تسعة ملايين قتيل وثمانية ملايين مفقود و21 مليون جريح.

وقبل تلك الحرب العظمى، التي أدركتها الصور الفوتوغرافية والسينمائية، ارتكب الرجل الأبيض جريمة ضد الإنسانية على مدى بضعة قرون، واستأصل شعوبا، ومحا آثار حضارة، تحت راية الكتاب المقدس، منذ وصول جيش الغزاة بالخطأ إلى الساحل الشرقي لأميركا، ثم توغله غربا بحثا عن الذهب، وإيغاله في إبادة السكان الأصليين، ونكاية بهم سمّاهم “الهنود الحمر”، ولم يكونوا هنودا أو حمرا.

وبالتزامن مع تلك الإبادة، فقد ظل يعوض نقص الطاقة البشرية بجلب نحو خمسين مليون أفريقيّا، في تجارة بشرية انتعشت عبر سلسلة من الوسطاء شملت قناصي البشر، ومسؤولي التوريد، وشركات الشحن والتصدير عبر المحيط الأطلسي، وربابنة سفن لم يتورعوا عن إلقاء المتمردين والمرضى طعاما للأسماك. جريمة كبرى غير مسبوقة ولا ملحوقة في التاريخ، تكفي لإثقال الضمير الأميركي والأوروبي عقودا قادمة، ولا يقارن بها إلا ضحايا أسوأ حركات العنصرية بنسختيْها.. النازية والصهيونية.

قبل الحرب العظمى، التي أدركتها الصور الفوتوغرافية والسينمائية، ارتكب الرجل الأبيض جريمة ضد الإنسانية على مدى بضعة قرون، واستأصل شعوبا، ومحا آثار حضارة، تحت راية الكتاب المقدس

للنزوع إلى الإبادة جذور فكرية تراجعت حدّتها كثيرا، وإن بقي لها وجه إقصائي أو عنصري يسفر عن نفسه أحيانا في موجات غضب، وسرعان ما تواجهه ردود فعل إنسانية في أوروبا نفسها. ويميل الرشد الحضاري إلى تصحيح أخطائه، متجاوزا مقولة روديارد كيبلنج “الشرق شرق والغرب غرب، ولن يلتقيا”.

ولا يتم التهاون في ما يتعرض له اللاعبون غير البيض في الملاعب الأوروبية من نداءات عنصرية. وأثناء مونديال روسيا، يونيو 2018، نشر على لسان مهاجم نادي مانشستر يونايتد اللاعب البلجيكي روميلو لوكاكو “عندما كانت الأمور تسير على ما يرام، كنت أقرأ في الصحف روميلو لوكاكو المهاجم البلجيكي، وحينما يحدث العكس كانوا يقولون روميلو لوكاكو المهاجم البلجيكي من أصل كونغولي”.

لا يخلو الأمر، في حدود ضيقة، من تعميم عنصري كان برنارد لويس من أبرز عرّابيه، ومما يؤسف له أن تؤدي الخبرة المريرة، لكاتب مرموق لا نكف عن محبته هو نيكوس كازانتزاكيس، إلى أخذ الإسلام بجرائر الأتراك في جزيرة كريت، حتى أنه سجل في سيرته “تقرير إلى جريكو” تجربته “مع أول مجزرة”، وهو طفل مرعوب ينزوي مع أمه وأخته في البيت “وكنا نسمع الأتراك الهائجين في الشارع يشتمون ويهددون ويحطمون الأبواب ويذبحون المسيحيين”. وقال أبوه وهو ينتظر وراء الباب، ولا يملك حيلة للدفاع عن نيكوس وأخته وأمهما “إذا حطم الأتراك الباب ودخلوا فإن في نيتي أن أذبحكم بنفسي قبل أن تقعوا في أيديهم”. لو قتل ذلك الصبي لخسرت الدنيا جمالا كثيرا، وخلت أيامنا من “زوربا”.. رواية وفيلما وموسيقى ورقصة خلّدت أنطوني كوين.

13