فلسفة "طُظ" تبني عوالم "القاهرة الجديدة"

كلمة التقطها نجيب محفوظ من أغنية سيد درويش تصبح فلسفة كاملة.
الجمعة 2024/03/22
بطل ساخر من كل شيء (لوحة للفنان بسيم الريس)

جسدت روايات نجيب محفوظ، ومازالت تفعل، جزءا هاما من الشخصية المصرية، ومثلت وثائق حية في تفاعلها مع التاريخ والمجتمع حتى في ألفاظه التي اعتبرت خارجة عن الذوق لاحقا، لكنه حفر فيها ليصنع شخصيات  فريدة على غرار مـحجوب عبدالدائم بطل رواية “القاهرة الجديدة” وصاحب الفلسفة الطظية.

تُقال كلمة “طُز” – في معجم تيمور الكبير للألفاظ العامية لأحمد تيمور – للاستهزاء، ولعلها من الطنز. وطَنَز به تعني سَخِرَ واستهزأ. وتَطَانزوا : سَخِر بعضهم من بعض.

وفي موسوعة “ويكيبيديا” العالمية: “طُز كلمة تعني في اللهجات العامية العربية اللامبالاة والسخرية، وهي كلمة قديمة عثمانية الأصل تعني ملح (بالتركية tuz)”. ولكن في الأذرية (نسبة إلى أذربيجان) تعني “الغبار” وقد تكون رياح “الطوز” التي تهب في الكويت محملة بالغبار الكثيف، مما ينتج عنه عدم وضوح الرؤية، مشتقة من المعنى الأذري (الغبار).

معنى الكلمة

كلمة “طُز” كانت تستعمل عندما كان الأتراك يحكمون العرب في مراكز التفتيش. كان العرب يذهبون لمبادلة القمح بالملح. فعندما يمر العربي خلال بوابة العسكري التركي وهو يحمل أكياس الملح يشير إليه التركي بيده إيذانا بالدخول ودونما اكتراث يقول “طُز، طُز، طُز” فيجيب العربي “طُز” بمعنى أنه فقط ملح، أي لا شيء ممنوع أو ذا قيمة. ويقولها بطريقة عدم الاكتراث أو الاهتمام (وهكذا انعكس معناها إلى عدم الاهتمام) فيدخل دون تفتيش.

وفي رواية أخرى ذكر المؤرخون أن “طز” في الأصل كلمتان “طز فش”، و”فش” بمعنى أدخل، ولمَّا حدث نقص شديد في الملح مر جندي روماني شديد البنيان، وكان يسأل التجار عندما يمر أحدهم بأبواب القاهرة فيسأله ماذا معك فيقول “طز” ويرد الجندي “فش” يعني “أدخل”، وظل الأمر يتكرر حتى توافر الملح وأصبح الحارس يقولها بلا جدوى ومن هنا جاءت كلمة “طز” أي الشيء عديم الجدوى.

وقد استخدم سيد درويش “طز فش” في إحدى أغنياته، ولكنها حذفت عندما بدأت الإذاعة المصرية تذيع أغنيات سيد درويش في الراديو. وفي هذا يقول نجيب محفوظ “تعرفت على سيد درويش دون أن أعرفه، وبدأ تعارفي الحقيقي عليه في مسارح روض الفرج الشعبية التي كنت أذهب إليها بصحبة والدي، وأحيانا بصحبة والدي وشقيقي. وظللنا نتردد على هذه المسارح بانتظام، وأنا في ابتدائي – أي من سن الثامنة حتى الحادية عشرة تقريبا – ولما أحيوا ألحان سيد درويش في الإذاعة بعد ذلك بسنوات عديدة، كنت أذهل وأنا أستمع إليها. وأجدني مازلت أحفظها منذ أيام طفولتي، حتى أني كنت أقوم بتكميلها صحيحة، كما كانت تُغنى قبل التهذيب الذي أدخلوه عليها، فحذفوا أشياء مثل ‘طز فش‘ و‘شفتي بتاكلني‘.. وغير ذلك”.

"طظ" شعار يرمز إلى التحرر من كل شيء، من القيم والمثل والعقائد والمبادئ، من التراث الاجتماعي عامة

ويبدو أن معنى “طُز” أو “طُظ” ظل عالقًا في ذاكرة نجيب محفوظ، إلى أن جعلها فلسفة خاصة بمحجوب عبدالدائم بطل رواية “القاهرة الجديدة”.

ولكن قبل ذلك نرى أمير الشعراء أحمد شوقي يستخدم هذه الكلمة أيضا في إحدى “محجوبياته” فيقول على لسان صديقه الدكتور محجوب ثابت الغاضب على صديقه سليمان فوزي: “ألا طُزٌّ على العيهور طُزٌّ/ وإن أبدى مجاملة الرفاق/ بقارعة الطريق ينال مني/ ويوسعني عناقا في الزقاقِ”.

وهنا يأخذ شوقي المعنى المباشر لكلمة “طز” باعتبارها كلمة سبّ تحملُ كمًّا من الاستهزاء والسخرية إلى جانب الغضب والاستياء. وقد وردت كلمة “طظ” كثيرا في الزجل وشعر العامية المصري، ومنها قول صلاح جاهين في إحدى رباعياته: “يا طير يا عالي في السما طظ فيك/ ما تفتكرشي ربنا مصطفيك/ برضك بتاكل دود وللطين تعود/ تمص فيه يا حلو ويمص فيك، عجبي”.

أما عند نجيب محفوظ فقد ارتفعت كلمة “طظ” إلى آفاق فلسفية وإلى أبعاد إنسانية جديدة دارت حولها شخصية محجوب عبدالدائم بطل رواية “القاهرة الجديدة”. ونلاحظ أن الاثنين يحملان اسم “محجوب”، محجوب ثابت عند شوقي، ومحجوب عبدالدائم عند محفوظ.

إن “طُظّ” محجوب عبدالدائم تعني عدم الاهتمام بأي شيء، فلا أخلاق، ولا فضيلة، ولا مبادئ ولا دين، وإنما السخرية والاستهزاء والسخط والتهكم واليأس والتبرم، ومحاولة الوصول إلى أي مركز مهم في ديوان الوزارة، من خلال “الفلسفة الطُّظِّية” التي تحمل الكثير من اللامبالاة والاستهزاء والسلبية المطلقة. لقد كانت “طظ” هي مثله الأعلى، أو الحكمة العالية في حياته.

الفكر الطظي

f

ظهرت أول “طظ” في “القاهرة الجديدة” عندما تحدث أصدقاء الجامعة – في مناظرة – حول “المبادئ”، وهل هي ضرورية للإنسان أو الأولى أن يتحرَّر منها؟

قال علي طه مخاطبًا مأمون رضوان: نحن متفقان على ضرورة المبادئ للإنسان، هي البوصلة التي تهتدي بها السفينة وسط المحيط. فعلَّق محجوب عبدالدائم بهدوء ورزانة قائلا: طُظ. (ص 8). لكن علي طه لم يلقِ له بالا.

وفي الصفحة نفسها سأل أحمد بدير: ماذا يحتاج جيلنا من مبادئ؟ فقال علي بحماس: الإيمان بالعلم بدل الغيب، والمجتمع بدل الجنة، والاشتراكية بدل المنافسة. فعلَّق محجوب عبدالدائم على كلامه قائلا: طظ .. طظ .. طظ (ص 8). وكررها ثلاث مرات.

وعندما سأله أحمد بدير: وأنت يا أستاذ محجوب، ما رأيك في المناظرة؟ فأجابه بهدوء: طظ …

-هل المبادئ ضروية؟/ – طظ ../غير ضرورية إذن؟/ – طظ…/ – الدين أم العلم؟/ – طظ../ – في أيهما؟/ – طظ ../ – أليس لك رأي ما؟/ – طظ../ – وهل طظ هذه رأيٌ يُرى؟/ فقال محجوب بهدوئه المصطَنع: هي المثل الأعلى.

هكذا ظلت “طظ” هي الإجابة التي يقتنع بها محجوب عبدالدائم لجميع الأسئلة المطروحة بين الأصدقاء في أحاديثهم ومناظراتهم، وقد تكررت في صفحات كثيرة بالرواية، وصلت إلى أكثر من ثلاثين طُظًّا، معلنة عن رأي صاحبها في المبادئ والمعتقدات، وفي الحياة نفسها.

وعندما يقول مأمون رضوان “للإسلام اشتراكيته المعقولة”، يهز محجوب منكبيه استهانةً ويقول باقتضاب: طظ. وعندما يرى زملاءه مساء الخميس يرتدون بدلهم ويغادرون إلى سهراتهم بينما هو في حجرته دون أن يغير ملابسه، لأنه لا يملك غيرها، يشيّع كل واحد منهم بـ “طظ” مفعمةً سخرية وحقدًا.

لقد كان محجوب عبدالدائم صاحب فلسفة استعارها من عقول مختلفة كما شاء هواه، وفلسفته الحرية كما يفهمها هو، و”طظ” أصدق شعار لها. هي التحرر من كل شيء، من القيم والمثل والعقائد والمبادئ، من التراث الاجتماعي عامة.

وكان يرى أن أصدق معادلة في الدنيا هي: الدين مع العلم مع الفلسفة مع الأخلاق يساوي: طظ. وكان “يؤمن بالحرية المطلقة.. طُظ المطلقة.. ليكن لي أسوة حسنة في إبليس.. الرمز الكامل للكمال المطلق”. وعندما أحس أن صديقيه مأمون رضوان وعلي طه من الممكن أن يحتقراه. قال: طظ. وعندما خسر تحية وأباها الغني (حمديس بك)، بعد أن تملكه شيطان الشهوة في رحلتهما إلى الهرم، فصدته بيمناها، وباعدت رأسها عنه، ولاح في وجهها الجميل الغضب، وصاحت به: أجننت.. دعني.. أترك يدي. وغادرت المكان غاضبةً. غمغم وهو يهزّ كتفيه استهانةً: طظ.

وعندما سأله زميله أحمد بدير كيف لا تحدثنا عن القرابة العظيمة لحمديس بك؟ أجابه محجوب بعد أن عرف أن تحية أخفت أمر ما حدث عن الجميع، أجاب محجوب متأثرًا بسرور النجاة: طظ. ولكنه كان أحيانا ينسى “طظ العزيزة” في بعض المواقف، فلا يطلقها كعادته.

معنى "طُز" أو "طُظ" ظل عالقًا في ذاكرة نجيب محفوظ، إلى أن جعلها فلسفة لبطل رواية "القاهرة الجديدة"

وبعد أن تزوَّج من إحسان شحاته، وبدأ يرفل في نعيم الحياة الجديدة، حاول مرات أن يعوذ بسخريته، وجعل يوصي نفسه قائلا “اقتل الشك، امحُ الكرامة من قاموسك، احذر الغَيرة، أفرغ شهوتك، توثَّب للطموح، واذكر أن ما أنت فيه هو الامتحان الأول والأخير لفلسفتك، فقل الآن طظ، قلها بلسانك وبقلبك وبإرادتك”.

وعندما كان يغادر بيته ليخليه إلى قاسم بك – حسب الاتفاق – كان يحاول أن يستعيد رباطة جأشه وبروده، حاول أن يقول: طظ، ولكنه أخفق، أو أخفق مؤقتًا على حد تعبيره.

لم يكن أصدقاؤه على علم بأنه تزوّج إحسان شحاته، ولكنه أخبر مأمون رضوان بأنه تزوّجها، بعد أن فترت العلاقة بينها وبين علي طه حتى انقطعت، وعندما ودَّع صديقه مأمون بعد انتهاء الزيارة، وما إن سمع صفقة الباب وهو يغلق حتى بصق باحتقار وغضب وغمغم بحقد شديد: طظ.

إن محجوب عبدالدائم يرى أن “طظ” نجحت نجاحًا باهرًا في حياته، وقد ارتاح لذلك ارتياحًا عزَّاه عن كل ما لاقى من ألمٍ ونَصَب وقلق وأحزان.

وعلى الرغم من سعادته مع إحسان شحاته، فإنه كان يخاف شيئا ما، فيقول في غمرة اليأس: طظ. علَّه يصرف عن نفسه هذا الخوف الكامن في الأعماق. كان يقنع نفسه بأنه ظفر بكل شيء فيقول “لقد ظفرت حتى الآن بفضل حرية عقلي وقوة إرادتي وتلك الحكمة العالية: طظ.. فلا يجوز أن أفرِّط في كنز من كنوزي الغالية”.

وهو في لحظات المواجهة مع النفس والاستسلام لليأس والقنوط يكاد يسمع هامسًا: “طظ”. إن أعماقه لا يزال فيها شيء من الرجاء أن يصبح إنسانًا أفضل مما هو فيه، ولذا كانت “طظ” لا تستجيب له في بعض الأحيان، أو يخفت صوتها أحيانا.

وكان أصدقاؤه يتندّرون على تلك الكلمة التي كانت دائما في فم محجوب عبدالدائم “طظ”. يقول أحمد بدير لأصدقائه “أتذكرون أحاديث صاحبنا البائس المستهترة؟ أتذكرون طظ المشهورة؟”.

وتنتهي “القاهرة الجديدة” بسخرية أصدقاء محجوب عبدالدائم من فلسفته وكلمته المشهورة. ويعلق مأمون رضوان بنبرات تنمُّ عن الأسى – بعد الفضيحة المروعة – إذا تزعزع إيمان الإنسان بالله غدا صيدًا سهلا لكل شر. وهي الرسالة التي يريد نجيب محفوظ إيصالها لقرائه من خلال “القاهرة الجديدة”.

يقول نجيب محفوظ “لقد حقق محجوب عبدالدايم نفسه في الخارج، لكن انظر ماذا كان الثمن، والشبيه الآخر به ‘حميدة’ في ‘زقاق المدق’ حققت نفسها وطموحاتها هي الأخرى في الخارج، لكن ما أفدح الثمن! لقد تحقق الاثنان عن طريق الدعارة، والغريب أن تحقيق الذات في الخارج بعد ذلك التاريخ كان يتم بطرق مشابهة”.

13