فلاديمير فلاديميروفيتش بوتين.. صورة للحقد

الأحداث الإنسانية العظيمة، مثل المجاعات والكوارث الطبيعية، تثير المشاعر. هذا أول ما يحدث. ليأتي من بعدها السؤال عمّا إذا كان بوسعك أن تفعل شيئا. الضحايا إذا كانت لك بهم أيّ صلة، سلبية كانت أو إيجابية، فإنهم يرفعون هرمون المشاعر إلى درجة أعلى. إذا كنت كارها لهم، فإن ذلك الهرمون يخفض الكراهية بنسبة معقولة. وإذا كنت مُحبا أو متعاطفا، فإن ذلك الهرمون سرعان ما يبلغ السقف. باختصار هناك شيء ما سوف يتحرك. قد لا تجد ما تفعله إذا كنت إنسانا لا يملك أكثر من رعاية نفسه وأسرته. ولكن عندما تكون رجل سلطة، في دولة تعتقد أنها “عظمى”، فالموضوع مختلف تماما.
تركيا وسوريا، بطريقة أو أخرى، حليفان لروسيا، وشريكان مهمّان لها، اقتصاديا وإستراتيجيا. ولكن روسيا فلاديمير فلاديميروفيتش بوتين كانت من بين آخر من عرض تقديم المساعدة في أعمال الإغاثة عن الزلزال الذي ضرب عدة مدن فيهما وأدى إلى سقوط المئات من القتلى والجرحى وانهيار المئات من الأبنية.
وبينما سارعت العديد من الدول الأوروبية إلى إرسال فرق إغاثة، بما فيها أوكرانيا التي تتلقى هي نفسها أعمال إغاثة، فقد اقتصرت البرقية التي أرسلها بوتين إلى نظيره التركي رجب طيب أردوغان على القول “نحن على استعداد لتقديم المساعدة اللازمة في هذا الصدد”.
◙ ضباط بوتين ليسوا خبراء في أي شيء. لا في التخطيط ولا في إدارة المعارك. إستراتيجياتهم تقوم على شيء واحد: الدمار الشامل. القصف بلا تمييز ولا رحمة. القصف بلا هدف أصلا
النبأ الأول الذي جاء من روسيا بشأن عواقب الزلزال في سوريا كان إعلانا من وزارة الدفاع الروسية يقول “إن الزلزال الذي وقع في شمال غرب سوريا لم يؤثر على الجاهزية القتالية لقاعدة حميميم الجوية الروسية وغيرها من المنشآت العسكرية التابعة لروسيا”.
قبل الزلزال، كان السوريون الذين يعيشون في مناطق سيطرة النظام يحسدون أقرانهم السوريين الذين يعيشون في مناطق سيطرة المعارضة، على الأقل لأنهم يحصلون على معونات غذائية تشرف عليها وكالات الإغاثة الدولية، بينما نظامهم ليس لديه ما يغيثهم به.
بعد الزلزال، أصبح الكل سواسية. الدمار أتمّ مهمته في مناطق شمال غرب سوريا. بينما الجوع أتمّ مهمته في باقي المناطق.
ميزانية حكومة دمشق كانت هي الأدنى هذا العام. والموارد الشحيحة التي توفرها عمليات تصنيع المخدرات وتهريبها تكاد لا تكفي لخدمة مصالح المجموعة الحاكمة التي تشرف على عملياتها. ولكن المفارقة الصارخة هي أن روسيا، أكبر منتج للقمح في العالم، لم توفره لسوريا، ولا حتى من أجل أن تعزز مكانة رئيسها بين شعبه (في “سوريا المفيدة”) الذي يدعو له بالبقاء في السلطة إلى الأبد.
“أبو علي بوتين” لم يقدم لهم قمحا ولا نفطا. تركهم للفقر والجوع. رغم أن سوريا، بالنسبة إلى طموحاته الإستراتيجية تشكل حجر زاوية مهما. فهي منحته قاعدة عسكرية على البحر المتوسط. ومنحته امتيازات التنقيب عن الغاز هناك. ووفرت لقواته موطئ قدم لمنافسة الوجود الأميركي في سوريا. وبات بوسعه أن يقرر كل شيء، بما في ذلك مستقبل النظام نفسه، ومن يبقى أو من لا يبقى فيه. وضباطه يجولون في الأراضي السورية وكأنهم هم الحاكمون الفعليون. ولكن بالقدرة على هدم البنيات، وليس بتقديم القمح والنفط.
ولقد توفرت أدلة قاطعة على أن هؤلاء الضباط كانوا شركاء فعليين في استخدام أسلحة كيمياوية في الهجوم الذي شنته قوات النظام ضد مدينة دوما بالغوطة الشرقية في ريف دمشق عام 2018، حسب أحدث تقارير “منظمة حظر الأسلحة الكيمياوية”، ومنها تسجيل بصوت الجنرال الروسي ألكسندر زورين. إلا أن مشاعر المسؤولية عمّا حدث اختفت كليا. وتُركت هذه المنطقة لمصيرها حتى بعد أن استعادت الحكومة السورية السيطرة عليها.
تحتاج فقط أن تكون حقودا لتملك هذه القدرة على الإهمال والتجاهل.
الحقد قد يكون مدفوعا بأسباب، إلا أن صراعات المصالح لا تستولد حقدا. ليس بالضرورة. لأن ذلك ليس من طبيعتها أصلا. صراعات المصالح أشبه بمباريات نفوذ وقوة. تفوز بها أو تخسرها من دون حاجة إلى أن تضيف إليها حقدا، إلا إذا كان الحقد جزءا من طبيعتك الشخصية. فتحقد على من تتنافس معه، كما تحقد على كل ما قد يُحيط به من البنايات والناس الذين يعيشون تحت سقوفها. وعندما تنتصر تتركهم للفقر والجوع والعراء.
◙ تركيا وسوريا، بطريقة أو أخرى، حليفان لروسيا، وشريكان مهمّان لها، اقتصاديا وإستراتيجيا. ولكن روسيا فلاديمير فلاديميروفيتش بوتين كانت من بين آخر من عرض تقديم المساعدة في أعمال الإغاثة عن الزلزال
تسأل نفسك ما نوع ذلك “النصر” الذي يستجلب الخراب، ثم يُبقيه، ويحوّله إلى شاهد على ما فعلت؟
حتى القتلة يحاولون، عندما يحققون “نصرا”، أن يُخفوا معالم الجريمة. يمسحون البلاط من آثار الدم. ويعيدون إقامة الحجر الذي أسقطوه.
ولكن انظر إلى حلب. انظر إلى المدن التي هدمها في إقليم دونباس. أنظر إلى الخراب الشامل، والتهجير الشامل، الذي أحدثه فيها. ثم يزعم أنها أصبحت مدنا روسية. لقد أصبحت مدن خراب روسية بالأحرى، خرّبها بنفسه، ويعجز عن إصلاحها أو إعادتها إلى ما كانت عليه.
هناك حقد لسبب. وهناك حقد بلا سبب؛ حقد نقي يخدم نفسه، مثلما يفعل السرطان عندما يتفشى ليغذي قدرته على التفشي بين ما يتولى تدميره.
قد يوفر لك الصراع مع الغرب أسبابا للحقد عليه. ولكن ذلك لا يفترض أن يشمل الأبنية والناس. لا يشمل الفقر والجوع والتشرد ضد الذين يجدون أنفسهم وسط تقاطع النيران. هذا شيء وذلك شيء آخر.
تحتاج فقط أن تجعل حقدك نقيا، لكي تحوّل المعركة إلى “مفرمة لحم” ليس للجنود وحدهم، وإنما لكل من يشمله الطريق إلى المجزرة.
ضباط بوتين ليسوا خبراء في أي شيء. لا في التخطيط ولا في إدارة المعارك. إستراتيجياتهم تقوم على شيء واحد: الدمار الشامل. القصف بلا تمييز ولا رحمة. القصف بلا هدف أصلا. كل شيء، وأي شيء، هو الهدف.
تلك هي ثقافة الحقد التي يُغذيها فلاديمير فلاديميروفيتش بوتين في نفسه وبين ضباطه. هم، بكل بساطة، قتلة لا يمسحون البلاط.
ثلاثة أرباع الحرب في سوريا، كما ثلاثة أرباع الحرب في أوكرانيا، كانت حقدا.
وفي النهاية، فلا قمح ولا نفط، ولا إغاثة، لما بعد “النصر”.