فضل السباحة مع التيار

عسكريون يحرسون التغيير، مثل أحمد قايد صالح وعبدالفتاح البرهان، لم يأتوا من أي قالب ثوري، ولكن قد يثبت أنهم أكثر نفعا، بسبب من طبيعة أخرى.
الأربعاء 2019/05/01
"ربيع الجزائر" و"ربيع السودان" مختلفان، ببقائهما على ضفة السلمية

السباحة ضد التيار عمل من أعمال الثوريين. ولكنها لم تسفر في عالمنا العربي عن بلوغ المراد. ولا حتى لمرة واحدة. ولئن سعى الثوريون أن يصلحوا ويغيّروا استنادا لنظريات وأيديولوجيات، فقد ثبت أنها أعمتْهُم عما كان يجب أن يروه ويستوعبوه: وجهة التيار.

عسكريون يحرسون التغيير، مثل أحمد قايد صالح وعبدالفتاح البرهان، لم يأتوا من أي قالب ثوري، ولكن قد يثبت أنهم أكثر نفعا، بسبب من طبيعة أخرى.

الارتباط بقالب “الحرس القديم” يمكنه، لو شئت التدقيق، أن يشمل كل طاقم كبار المسؤولين والموظفين والضباط، من دون أن يستثني أحدا. إلا أن هناك من ينجو من هذا الوصف بسحر ساحر. ربما لأنه ينظر إلى المتغيّرات بنوع من النظرة “العملياتية”، فيأخذ بالشيء غير المتوقع منه.

كل تغيير يتطلب شخصيات تتوسط المرحلة بين ماض لا يريد أن يموت، وبين مستقبل لم يولد بعد. ولكن القليل من الشجاعة قد يكفي، لإدراك أن الساعة الخامسة والعشرين، تطوي معها كل شيء. ووجه الشجاعة الأهم فيها هو أن يجد المرء نفسه منتميا إلى بيئة جديدة، بشروطها هي، لا بشروط ماضيه.

المسألة ليست مسألة قفز من المركب الغارق فحسب، ولكنها بدرجة أهم، مسألة القدرة على السباحة إلى الضفة الأخرى. وهذا ما أصبح يجسده أحمد قايد صالح في الجزائر، وعبدالفتاح البرهان في السودان. حتى لم يعد بوسع أحد أن ينظر إليهما على أنهما جزء من الحرس القديم، لأنهما إذ يجندان طاقميهما لحماية التغيير، فقد أصبح بوسعهما أن يكرسا انتسابا آخر لا تلوّثه شبهات الماضي.

كما أنهما ليسا من نوع العسكريين الذين قادوا ثورات، ولم يُلبسوا لها، ولا أنفسهم، ثوب معتقد. إذ كانا، فقط، رجلي ميدان و”عمليات”. وفي المسار الذي يفرضه التيار، فقد وجدا نفسيهما أمام حاجة لتبني فلسفة الإجراءات وتوفير المستلزمات لتيسير الاستقرار.

إنهما من صنف رجال يملكون ما لا يملكه الكثيرون: النفوذ، والخيار الصحيح، والقدرة على المضي به قدما، من دون حرج ولا نظرة عطف إلى الوراء.

وهذا نوع من التطهّر أيضا. وهو كاف، بما يوفره من حماية لتطلعات الناس، أن يُبقي الأمل حيّا، بأن التغيير ممكن من دون الغرق في الفوضى أو الفشل التام.

رجال، كهذين، لم يظهروا في سوريا، ولا في اليمن، فغرقت البلاد في مسارات ما كان يجب أن تسلكها، ولا أن تقع ضحية لها.

واضح، حتى الآن على الأقل، أن “ربيع الجزائر” و”ربيع السودان” مختلفان، ببقائهما على ضفة السلمية، وبابتعادهما عن استراتيجية “الفراغ” التي وفرت لتنظيمات الإخوان المسلمين الظرف اللازم للسطو على التغيير ونهب السلطة، كما حدث في تونس ومصر، أول الفوضى. منذ البدء، ألمح أحمد قايد صالح، لسلطة الماضي كما للناس، بأنه لا فراغ. وبعد قليل من “المناقلات الإجرائية”، عبّأ عبدالفتاح البرهان مكانه لكي يسد الطريق على “الدولة الإخوانية العميقة” ليمنعها من الانقلاب على “الانقلاب”.

انتقال قايد صالح إلى صف الشارع أصبح كليّا عندما ندد بالفساد، وأصدر تحذيرات صريحة، وخاصة لبعض جنرالات الجيش السابقين من السعي لتخريب الحراك الشعبي، أو السعي لركوب موجته.

أصداء التحذير ترددت في كل ركن، حتى أصبح أحمد قايد صالح، وهو الذي لا يُظهر أي طموحات سياسية، ركيزة من الركائز التي يستند إليها الحراك، بل أصبح ظهيرا له.

الخطوة التالية حسمت كل الشكوك المحتملة حول الدور الذي يؤديه، وذلك بدعوته الصريحة لمحاكمة رجالات النظام الفاسدين، وهي الدعوة التي التقطها الجهاز القضائي ليبدأ بمساءلة رئيس الوزراء السابق أحمد أويحيى في قضايا فساد محتملة، فضلا عن احتجاز نخبة من مليارديرات الجزائر الذين لم يتردّد صالح بوصفهم بـ”العصابة التي نهبت أموال الخزينة العامة”.

ولئن بدا المجلس العسكري الانتقالي في السودان بقيادة عوض بن عوف وكأنه امتداد مراوغ لسلطة عمر حسن البشير، أو محاولة لإنقاذ دولته العميقة مقابل التضحية به، فإن اللعبة لم تنطل على ذكاء الناس. الخطوة الناقصة، كان لا بد وأن تكتمل، بمجلس عسكري لا يرتبط بتلك الدولة، ولا يلتفت إلى ماضيها بعطف.

المنطق – منطق النجاة الفردي على الأقل- هو ما أحكم القبول بشخصية البرهان لكي يُتم ما لم يجرؤ بن عوف على المضي به. لقد أتيحت له الفرصة إلا أنه لم يلتقطها، فتركها لمن يقدر على السباحة إلى الضفة الأخرى.

بعض السباحة مع التيار أصعب من السباحة ضد التيار. لا أدري، ولم تتوفر الدلائل، على أن السباحة الثورية ضد التيار أورثت فضلا، فكان للسباحة مع تيار الناس فضلان.

9