فرنسا تعيد فتح ألف مقهى لفك عزلة سكان القرى النائية

الشباب هاجروا إلى المدن للعمل وبقي المسنون عالقين في الفراغ.
الأربعاء 2019/09/25
فتح المقاهي يعيد دفء الحياة الاجتماعية

تسارع الحياة في المدينة التي تتمركز فيها مواطن الشغل والدراسة جعل شباب الأرياف يختارون الاستقرار فيها، فظل في القرى الفرنسية المتقدمون في العمر حيث يعانون اليوم من العزلة بعد أن أغلقت المقاهي والبارات، وهو ما جعل أحد المسؤولين يتقدم ببادرة جديدة لإعادة الحياة إلى المقاهي حتى يتجمع هؤلاء من جديد.

باريس - بالنسبة لقرية “بورت برييه” الفرنسية، كان إغلاق المقهى الأخير بها بمثابة صدمة مؤلمة للجميع، المقهى الذي كان يجتمع فيه الناس يتناقشون في أمور الحياة، وحيث كان بإمكان الصيادين أن يصطادوا في البحيرات المجاورة، وحيث كان عمدة القرية يلاعب أصدقاءه كرة الطاولة.

تقول صحيفة محلية “سلب إغلاق بار لو بيتي القرية روحها وجمالها”.

يقول عمدة القرية، جيل بريسين، “خسارة المقهى كانت بمثابة ضربة قاسية، أؤمن بروح المقاهي، والأهم من ذلك كله، أنني أؤمن بالأماكن التي يمكن للناس أن يجتمعوا فيها”. إغلاق العديد من المقاهي الفرنسية ليتقلص عددها من 200 ألف مقهى إلى 40 ألفا فقط في نصف قرن، حرم الفرنسيين من أماكن الترفيه التي اعتادوا أن يجتمعوا فيها على مر الأجيال، وليس فقط لمجرد تناول القهوة مع كرواسون الصباح، أو البيرة والنبيذ في وقت متأخر من الليل، الأهم من ذلك، أن المقاهي كانت للتجمع وعدم الشعور بالوحدة. يُنظر إلى الدور الاجتماعي الذي تلعبه المقاهي كأماكن يختلط فيها الفرنسيون ويقيمون الصداقات والاحتفالات على أنه هام للغاية بالنسبة للصالح الوطني إلى حد أن مستشار الرئيس إيمانويل ماكرون وحليفه السياسي قد أطلق خطة إنقاذ لألف من هذه المقاهي بقيمة 150 مليون يورو.

وتركز الخطة على القرى الصغيرة حيث غالبا ما يكون إغلاق المقاهي فيها بمثابة الحدث الكارثي، حيث يتم تضييق الخناق على سكان هذه القرى إذ لا أماكن أخرى لهم للترفيه.

وبالنسبة لجان مارك بوريلو، الذي كان أحد مدرسي ماكرون عندما كان طالبا في جامعة “ساينسز بو” في باريس، فإن توفير المقاهي ليس مجرد مهمة اجتماعية، إنها أيضا محاولة للرد على شكاوى العديد من سكان هذه المناطق ممن يعيشون بعيدا عن الأضواء الساطعة في باريس والمدن الأخرى، محرومين من الخدمات العامة، والاتصالات وفرص العمل والترفيه.

فضاءات كانت تعج بالحركة
فضاءات كانت تعج بالحركة

إن هذا “التصدع الإقليمي الحقيقي”، كما يقول بوريلو، بين المدن المفعمة بالحياة والقرى النائية عمل على إثارة ما يسمى بحركة “السترات الصفراء” الاحتجاجية التي اندلعت في نوفمبر الماضي وهزت رئاسة ماكرون، حيث تجمعت جحافل من المتظاهرين يرتدون السترات “الفلورسنت” في العاصمة قادمين من المقاطعات الأخرى للشكوى من الضرائب، والأجور، وتراجع الخدمات العامة وغيرها من القضايا، ووصفوا الحكومة في باريس بأنها لا تستطيع السيطرة.

لا يزعم بوريلو، الذي يرأس مؤسسة فرنسية كبيرة لا تبغي الربح ويبلغ حجم رأس مالها السنوي مليار يورو، وتمارس مجموعة من الأنشطة في مجال الرعاية الصحية ورعاية الأطفال وغيرها من المجالات، أن إنقاذ المقاهي، وحده، سيخفف من معاناة متظاهري “السترات الصفراء”. يقول إن إعادة فتح المقاهي في القرى سوف تساعد على محاربة العزلة الاجتماعية، وتزويد السكان بأماكن للقاء وتوطيد الصداقات، و”هذا سيعيد الحياة إلى القرية شيئا فشيئا، وسيربطها ببقية العالم”.

ويضيف بوريلو في مقابلة مع وكالة أسوشيتيد برس، “الحقيقة البسيطة المتمثلة في فعل الأشياء سويا تحيي الأمل في بعض الأحيان”. ويريد بوريلو أن تصبح المقاهي الجديدة صورة مثالية تعكس شكل البيسترو الفرنسي التقليدي.

وبالإضافة إلى المشروبات المعتادة والوجبات الخفيفة، يمكن للمقاهي أيضا تقديم الضروريات التي لا تكون دائما في متناول اليد في المناطق البعيدة عن الطريق، بما في ذلك الخبز والبقالة وخدمة الإنترنت والخدمات البريدية وحتى المساعدة في ملء الإقرارات الضريبية عبر الإنترنت وتجهيز الأوراق الأخرى.

وعلى الرغم من أن بوريلو لا يقول ذلك بشكل صريح، إلا أن الأشخاص الذين يذهبون إلى المقاهي ربما يشعرون بقدر أقل من الرغبة في العودة إلى المخيمات المؤقتة التي انتشرت حول حدود البلدات والقرى في جميع أنحاء فرنسا خلال حركة السترات الصفراء.

وكان لهذه المخيمات دور سياسي، كونها نقطة انطلاق للاحتجاج، ودور اجتماعي، حيث تجمع المتظاهرون حولها لتبادل القبعات والبيرة وشواء النقانق وتكوين صداقات.

يقول بوريلو “من الواضح أن الحاجة إلى مقابلة أشخاص آخرين، والدردشة معهم، كانت السبب الذي أثار تلك المشاكل”. يتفحص الموظفون في مقر مؤسسة “بوريلو غروب” في باريس رسائل من رؤساء البلديات يقدمون قراهم ضمن الاقتراحات، وكذلك رسائل من أشخاص يتطوعون لتشغيلها.

تقلص عدد المقاهي من 200 ألف مقهى إلى 40 ألفا فقط في نصف قرن ليحرم الفرنسيون من أماكن الترفيه التي اعتادوا الاجتماع  فيها على مر الأجيال

يقول بوريلو إن مدراء المقاهي سيحصلون على تدريب في هذا المجال، في حين “سيقرر سكان القرية اسم المقهى، بينما سنحدد أساسيات الديكور معا”.

وتهدف المجموعة إلى افتتاح أول مقهى جديد أو تم إنقاذه قبل نهاية العام. وساهم تغيير التركيبة السكانية والعادات الفرنسية في إغلاق المقاهي، حيث انتقل أطفال القرية إلى المدن للعمل، كما ساعدت الطرق السريعة وشبكة القطارات السريعة في فرنسا على التعزيز من حركة المرور، وبالتالي على الحفاظ على حركة الأعمال داخل البيسترو والمقاهي في المدن الكبرى.

ومع انخفاض استهلاك النبيذ وحظر التدخين تراجع إقبال الرجال على المقاهي. وبدلا من التسوق من أسواق القرى، واللجوء إلى المقاهي قبل وبعد التسوق، توجهت العائلات إلى محلات السوبر ماركت خارج المدينة لشراء ما يحتجون مرة كل أسبوع.

ويبلغ عدد سكان قرية بورت برييه 1800 نسمة فقط، وتقع القرية في شمال غرب فرنسا، وكانت لديها أربعة بارات عندما كان يان موستيير، البالغ من العمر 41 عاما، في العشرينات من عمره.

يتذكر موستيير قائلا “لقد اعتدنا على التنقل من بار إلى آخر، ننظم مسابقات التارو، ونحتفل بعيد الهالوين.

وفي كل مرة كان يتم إغلاق مقهى، كنا نشعر بالحسرة، لكن كان يتبقى دائما واحد أو اثنين، ثم في النهاية تم إغلاق جميع المقاهي. كان أمرا محزنا”.

وعندما شعر موستيير بالحزن العميق بعد إغلاق بار “لو بيتي” في شهر مارس الماضي، شعر بأنه مضطر إلى شرائه يقول “قرية مثل هذه دون بار تعتبر ميتة، الناس لم يروا بعضهم البعض منذ ذلك الحين، كان البار يجتذب الناس والزوار لزيارة القرية”.

بعد أن دهن البار بطلاء جديد وأعطاه اسما جديدا “لو سانت إلوا”، يخطط موستيير لإعادة فتح أبوابه يوم 30 سبتمبر الجاري.

ويأمل موستيير في جذب المسافرين صباحا بالقطار إلى المدن القريبة ومدينة رين، وكذلك هؤلاء ممن يشربون الخمر والذين يلتقون للمراهنة على سباقات الخيول في فترة بعد الظهر، وفي المساء لأن “الناس يحبون تناول مشروب بعد العمل”.

وأضاف موستيير “لا أصبر حتى أبلغ ميعاد إعادة فتح البار. سأقدم مشروبا للجميع وأعزف بعض الموسيقى حتى يجتمع الناس معا مرة أخرى”.

20