فرنسا تسعى إلى إعادة هيكلة وجودها العسكري في أفريقيا

باريس تحضر لأشكال جديدة من التدخل في الساحل الأفريقي بعد فك ارتباطها مع مالي.
الجمعة 2022/07/15
انسحاب أم إعادة انتشار؟

بعد فك ارتباطها مع السلطات العسكرية الحاكمة في مالي، تسعى فرنسا إلى إعادة هيكلة تواجدها في منطقة الساحل الأفريقي وفق أجندة تضع جنودها في الصف الثاني في مواجهة الجهاديين على أن تسند المهام الرئيسية إلى الجيوش المحلية.

باريس - فتح الرئيس إيمانويل ماكرون الباب أمام تحول الوجود العسكري الفرنسي في أفريقيا إلى جهاز أكثر تكتما وأعلن عن إعادة تقييم لموازنة الجيوش لفترة 2024-2030 في ظل عودة الحرب في أوروبا.

وبينما تغادر القوات الفرنسية مالي بحلول نهاية الصيف وتنشر آلاف العسكريين لمكافحة الجهاديين في منطقة الساحل، رأى ماكرون أن اعتماد "قوات أصغر حجما وأقل عرضة للخطر في أفريقيا هو ضرورة استراتيجية".

وأكد ماكرون في خطابه التقليدي في وزارة الجيوش الفرنسية الأربعاء عشية العيد الوطني في الرابع عشر من يوليو رغبته في "النجاح في بناء علاقة حميمة أقوى مع الجيوش الأفريقية على الأمد الطويل لإعادة بناء القدرة على التدريب هنا وهناك"، مع بقاء القوات الفرنسية في الصف الثاني وبينما تريد باريس إعداد جيوشها للنزاعات الحادة مثل الحرب التي تدور في أوكرانيا.

وتتمتع فرنسا القوة الاستعمارية السابقة في عدد من الدول الأفريقية، بوجود عسكري قوي هناك. وبالإضافة إلى التزامها في منطقة الساحل في أوج عملية إعادة هيكلة، نشرت عناصر لها في السنغال والغابون وجيبوتي.

ومن جهة أخرى، شدد الرئيس الفرنسي على الحاجة إلى "استمرارية بين عرضنا الدبلوماسي وتحركاتنا المتجددة للشراكة الأفريقية وإجراءاتنا التنموية في أفريقيا”. وقال “إنها نقلة نوعية عميقة".

إيمانويل ماكرون: قوات أصغر حجما وأقل عرضة للخطر ضرورة استراتيجية

وكانت فرنسا الشريك الرئيسي لباماكو. لكن القوة الاستعمارية السابقة أصبحت غير مرغوب فيها وتستعد لمغادرة مالي خلال أسابيع. وطرد المجلس العسكري الحاكم منذ 2020 الجيش الفرنسي واستدعى الروس عبر مجموعة فاغنر شبه العسكرية وإن نفت باماكو ذلك.

ومع فك ارتباطها بمالي، ستكون فرنسا قد قلصت وجودها في منطقة الساحل إلى النصف من خلال الإبقاء على حوالي 2500 جندي فقط في المنطقة. لكن باريس تقول منذ أشهر إنها لا تتخلى عن الحرب ضد الإرهاب وتتحدث مع دول الساحل وخليج غينيا للتحضير لأشكال جديدة من التدخل.

وفي النيجر، سيبقي الفرنسيون على أكثر من ألف رجل وقدرات جوية لتقديم الدعم الناري والاستخبارات في إطار “شراكة قتالية” مع القوات المسلحة النيجرية المنتشرة مع 250 جنديا فرنسيا بالقرب من الحدود مع مالي ضد الجهاديين المرتبطين بتنظيم القاعدة أو تنظيم الدولة الإسلامية.
وسيزور وزيرا القوات المسلحة سيباستيان لوكورنو والخارجية كاترين كولونا الجمعة النيجر. وسيتوجه لوكورنو في اليوم التالي إلى ساحل العاج.

وأعلن الرئيس الفرنسي أيضا عن إعادة تقييم لاحتياجات الموازنة في مجال الدفاع عبر قانون جديد للبرمجة العسكرية (2024-2030) أكثر ملاءمة “لاحتمال عودة مواجهة أكثر حدة".
وقال إن صياغة النص "يفترض أن تكتمل في نهاية هذا العام ثم يناقش مع البرلمان في أوائل 2023". وكان ماكرون بدأ في 2017 إدخال زيادة حادة على اعتمادات الدفاع بعد سنوات من القلة. وستسجل موازنة الجيوش نموا أكبر في 2022 قبل أن ترتفع بمقدار ثلاثة مليارات في 2023 لتصل إلى 44 مليار يورو.

وأخيرا، طلب من الجيوش “بذل المزيد” لتطوير “الخدمة الوطنية الشاملة” (سيرفيس ناسيونال أونيفرسيل) التي تستهدف الشباب من أجل حشد “المجتمع الفرنسي بأسره” في مواجهة التحديات المطروحة عليهم. وقال ماكرون إن “الأمر لا يتعلق بعسكرة الشباب ولا حتى المجتمع، بل بالوقت الذي تحتاج فيه الأمة إلى البحث عن لب تاريخها ومعناه العميق (..) الجمهورية تحتاج إلى أن تبذلوا المزيد من الجهود".

وكان برنامج “الخدمة الوطنية الشاملة” وعد حملة إيمانويل ماكرون في 2019. وبعد تجربة أولى مع ألفي متطوع شاب تتراوح أعمارهم بين 15 و17 عاما، ثم إلغاء دورة في 2020 بسبب جائحة كوفيد-19، شارك 15 ألف شاب الصيف الماضي في دورات تلاحم في جميع أنحاء فرنسا.
وتهدف "الخدمة الوطنية الشاملة" هذا العام إلى أن تشمل خمسين ألف شاب في المجموع. لكن هذا المشروع بعيد عن تحقيق إجماع بين نقابات المدارس الثانوية والجيوش، التي تعمل أصلا على جبهات متعددة.

◙ فرنسا لا تخفي انزعاجها مما يروّج عن اتفاق في مالي مع مجموعة فاغنر الروسية وهي خطوة تظهر أن موسكو توظف أدواتها للدخول على خط منافسة النفوذ الفرنسي

ومنذ 2013، توجد فرنسا في الساحل، عبر قوة سيرفال، التي تحولت في العام التالي إلى قوة برخان، بتعداد قوامه حوالي 5100 جندي، وتنفذ معظم عملياتها في مالي. لكن فرنسا قررت في يونيو 2021 إنهاء عملية برخان، وتقليص عدد قواتها من 5100 عسكري إلى ما بين 2500 و3000 عنصر، بالإضافة إلى الانسحاب تماما من مدن تيساليت وكيدال وتومبوكتو (أقصى شمال مالي)، داعية حينها إلى "تشكيل تحالف دولي في الساحل يضم دول المنطقة".

وتأتي التطورات الراهنة في ظل دخول موسكو على خط المنافسة في منطقة الساحل لاسيما في مالي وأفريقيا الوسطى حيث أصبحت شركة فاغنر المسلحة الروسية تنشط بقوة فيها. وفي هذا السياق، أكد ديبوي أنه "أصبح من الضروري أن تغير فرنسا استراتيجيتها في منطقة الساحل". ووفقا للمحلل الفرنسي إيمانويل ديبوي "قد يكمن الخطأ الذي ارتكبته فرنسا في أفريقيا في كثرة الاستراتيجيات التي طبقتها لذا يجب تحسينها".

ويضيف ديبوي "لقد تشعبت التدخلات لحل أزمة مالي ومنطقة الساحل، فقد تم إشراك منظمات دولية وحكومية مع إنزال 18 خطة عمل لمحاربة المسلحين وضمان الاستقرار السياسي في الساحل سواء من جانب الاتحاد الأفريقي أو المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا أو الاتحاد الأوروبي أو الأمم المتحدة".

ويثير دخول فاغنر الملعب الفرنسي في مالي قلق باريس، حيث علق وزير الخارجية جان إيف لودريان على الأمر في تصريح له بأن فاغنر "تنهب مالي مقابل حماية المجموعة العسكرية الحاكمة في البلاد".

ولا تخفي فرنسا انزعاجها مما يروّج عن اتفاق بين المجلس العسكري الحاكم في مالي ومجموعة فاغنر الروسية، وهي الخطوة التي تظهر، وفق مراقبين، أن روسيا توظف أدواتها غير المعلنة للدخول على خط منافسة النفوذ الفرنسي المتراجع في أفريقيا.

ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي تظهر فيها فرنسا قلقها من الدور الذي تلعبه مجموعة فاغنر، فقد سبق أن أبدت انزعاجها من الدور الذي تلعبه المجموعة في دول مثل أفريقيا الوسطى.
وبعد تواجد في منطقة الساحل لتسع سنوات، تعهدت فرنسا في يونيو بإعادة تنظيم قواتها العسكرية من خلال ترك ثلاث من قواعدها في شمال مالي (تيساليت وكيدال وتمبكتو) لإعادة الانتشار حول غاو وميناكا عند تخوم النيجر وبوركينا فاسو.
وتنص هذه الخطة على خفض العديد من القوات من 5 آلاف حاليا إلى 2500 أو 3 آلاف بحلول عام 2023. وتريد باريس الآن تركيز مهمتها على تدريب الجيوش المحلية على أمل أن تتولى يوما ضمان أمن أراضيها.

5