فرنسا تحتفي بـ"حديقة أفريقيا" للخطاط الجزائري رشيد قريشي

الفنان الجزائري يبحث في روح الخط العربي وعلاماته وتصاميم المخطوطات الشعبية المغاربية وبالثقافة الصوفية.
الجمعة 2021/12/03
تجربة فنية وإنسانية ملهمة

باريس – تتواصل إلى غاية الثاني عشر من ديسمبر الجاري بمدينة سارسيل (الضاحية الباريسية) بفرنسا فعاليات النسخة العشرين من البينالي الدولي لفن النقش (المنحوتات)، والذي يحتفي هذا العام بالمنجز الفني للخطاط الجزائري رشيد قرشي (1947)، حيث وقع اختيار البينالي على الفنان الجزائري ليكون ضيف شرف دورته الجديدة.

ويعرض قريشي تسعة عشر عملا فنيا جديدا للمرة الأولى أمام الجمهور من ضمن مجموعته “حديقة أفريقيا” التي يمزج فيها بين تقنيات الخط العربي والنحت والحفر الفني، ليعكس بذلك وعن جدارة قوة تجربته الفنية وصداها العالمي.

و”حديقة أفريقيا” ليست ككل الحدائق، فهي في ظاهرها حديقة غناء بأزهارها الفواحة التي في طور النماء بمسك الليل والياسمين وخمس أشجار زياتين رمز أركان الإسلام الخمسة واثنتا عشرة شجرة تين عدد رسل المسيح، وبين ثناياها وفي جوفها ترقد جثامين اختلفت دياناتهم وأصولهم وجمعهم مصير واحد الموت بطريقة مأسوية في البحر الأبيض المتوسط بحثا عن مستقبل أفضل وعن حياة كريمة بعد أن ضاقت بهم سبل الحياة، تلك هي “حديقة أفريقيا” مقبرة ضحايا الهجرة غير الشرعية المقامة بمدينة جرجيس التونسية (جنوب).

وصمّم التشكيلي الجزائري الذي فقد شقيقه غرقا في البحر، المكان، لمساعدة العائلات على بكاء موتاهم وليدركوا ولو بمجرد صور ترسل إليهم وجود مكان للدفن بكرامة.

وفي ذلك يقول “هو مكان رمز مثل قبر الجندي المجهول، لأن الكلّ مسؤول عن هذه المأساة”.

ويهتمّ قريشي بالبحث في روح الخط العربي وعلاماته وتصاميم المخطوطات الشعبية المغاربية وبالثقافة الصوفية، وتتّسم أعماله بالتحرّر والحيوية وتجمع بين التقاليد القديمة والحداثة.

وتعرض أعماله الفنية في عدد من المتاحف والهيئات الثقافية عبر العالم، من بينها متحف جونسون هيربرت بنيويورك، ومعهد العالم العربي بباريس، ومتحف الفنّ الحديث بباريس والمكتبة الوطنية الفرنسية، وكذلك متحف الفاتيكان، ومتحف الفن الحديث بالقاهرة.

Thumbnail

ونال قريشي العديد من الجوائز العالمية، من أبرزها جائزة الفن الإسلامي في العام 2011، وهي جائزة بريطانية تبلغ قيمتها خمسا وعشرين ألف جنيه إسترليني، تُقدّم مرّة كل سنتين، ليفتكّ الفنان الجزائري المرتبة الأولى بعد منافسة جمعته بتسعة فنانين آخرين، تمّ اختيارهم للمرحلة النهائية، ضمن مسابقة شارك فيها أكثر من مئتي فنان من جميع أنحاء العالم.

وقدّم قريشي في هذه المسابقة عمله المعنون بـ”الأساتذة المجهولون”، وهو عبارة عن منسوجة ضخمة مطرزة تحمل كتابات تدور كلها حول دائرة تحتل المركز من المنسوجة.

واستخدم الفنان في عمله حروف الخط العربي مقترنة بالرموز والأرقام لخلق منظومة فنية تُحاكي صحائف التراث وتضيف إليها أبعادا معاصرة.

وهو في ذلك وكعادته يعمل بشكل فني رفيع على تأكيد أن العالم الإسلامي رحب ومتسع الأرجاء ويتسامى عن محاولات تقليصه وحصره في جانب واحد، ولعل التعدّدية الثقافية التي عكسها عمل قريشي تتحدّى بقوة الحاضر المعيش الذي يعجّ بتصوّرات تربط بين الإسلام والعنف.

وممّا يعزّز تصوّره هذا استخدامه لكتابات المفكرين المسلمين ضمن منسوجته وتنسيقها بشكل بسيط وجاذب للعين والروح أيضا، ومن خلال الدوائر المطرزة والمنسوجة تتضافر كلمات ابن الرومي وابن عربي، فهؤلاء هم الأساتذة المجهولون الذين يعنيهم قريشي في عنوان عمله، فهم قد تركوا بصماتهم على أجيال تليها أجيال.

كما تتشبّع المنسوجة بالرموز العربية والأمازيغية وحروف التيفيناغ والمربعات السحرية وأرقام الطلاسم كالرقم سبعة، وكذلك رسوم الكف والعلامات الإيقاعية للفن الحجري.

وعنه قال مارتن روث، رئيس هيئة تحكيم الجائزة البريطانية للفنون الإسلامية التي يمنحها متحف فيكتوريا التي فاز بها قريشي “إن أعمال رشيد قريشي لفتت الأنظار لأنها حصدت القبول العالمي، كما أن أعمال الفنان الجزائري تصلح لأن تعرض في معرض للفن المعاصر”.

ولدى قريشي بصمة خاصة في رسم الحروف؛ إلى جانب أنه شديد الاطلاع على الثقافة العربية الإسلامية، خاصة الصوفية، وكان أنجز كتابا مهما صدر في فرنسا حمل عنوان “سادة غير مرئيين” يحتفي فيه عن طريق رسوماته الخطية، بنخبة من كبار المتصوّفين منهم: الحلاج، ابن عربي، جلال الدين الرومي، الأمير عبدالقادر، رابعة العدوية وفريدالدين العطار، عرّف من خلاله بسيرهم ومسارهم الصوفي، مختارا بعناية، حكما وأقوالا مأثورة من نصوصهم، رسمها خطوطا، في غاية الجمال والإبداع.

Thumbnail

وللقريشي علاقات وطيدة مع أبرز الكتاب والشعراء العرب، من بينهم الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش الذي كان شديد الإعجاب بفنّه، أثمرت العلاقة بينهما عن عمل مشترك، جمع بين قصائد الشاعر الفلسطيني ورسوماته، من خلال كتاب حمل عنوان “الأمة في منفى”، إلى جانب الكاتب الجزائري رشيد بوجدرة الذي أنجز له فنيا كتاب “المجتزءات الخمس للصّحراء”، الذي قام بترجمته إلى اللغة العربية الشاعر والمترجم حكيم ميلود؛ كما أنجز أيضا عملا مشتركا مع الكاتب الجزائري الراحل محمد ديب.

كما ساهم في زخرفة وتزيين العديد من الكتب وواجهات الهيئات والمؤسّسات الثقافية، ومن بين أشهر منجزاته رسم وزخرفة عربات ميترو دبي.

وفي نفس الإطار ارتأى منظمو تظاهرة البينالي الدولي لفن النقش بفرنسا التي تعرف خلال هذه الدورة مشاركة أكثر من مئتين وخمسين فنانا من أربع وثلاثين دولة وعرض ما يفوق الأربعة وخمسين عملا فنيا بمختلف الأحجام والأشكال، تخصيص جزء كبير لعرض أهم الأعمال الفنية الإبداعية لكبار الفنانين الذين يمثلون تجارب شتى من ضفتي حوض البحر الأبيض المتوسط على غرار إسبانيا، قبرص، لبنان ومصر. كما برمجت ورشات فنية وزيارات لقاعات العرض المخصّصة بالمدينة لفائدة المتمدرسين والعائلات والجمهور العام إلى جانب تكريم شخصيات فنية عالمية أتى على رأسها هذا العام رشيد قريشي.

وتأسّس البينالي الدولي لفن النقش لمدينة سارسيل بفرنسا في 1980، ويعتبر من أكبر التظاهرات التي تهتمّ بفن المنحوتات الفنية وتقنياتها المعاصرة على المستوى الدولي، ويعدّ بمثابة موعد كل سنتين للقاء أجيال ممارسي فن النحت والحفر وفرصة لاكتشاف أبرز الفنانين في المجال ونقطة التقاء لعشاق وهواة هذا النوع الفني بالنظر إلى انفتاح المهرجان على كل ثقافات العالم.

13