فردانية الشـاعر والتجييل الشـعري

الأربعاء 2016/05/11

“لا وجود لشعر في العراق” جملة تكررت عند عدد من الشعراء، بعضهم مضت على خروجه سنوات طويلة قد تمتد إلى أكثر من ربع قرن، وبعضهم في نهاية التسعينات وبعضهم بعد ذلك. لاحظت أن هذه الجملة أصبحت ظاهرة، أعني إيمانا من قِبل عدد من الشعراء، أنهم حملوا الشعر معهم حين خرجوا من العراق.

إن الأحادية، مذهب أصاب العراق بالقتل، وأكثر المتضررين منه هم الشعراء، لكنهم وللمفارقة أكثر من يتشبث به، وهنا أودّ القول إنه لا فرق بين أحادية عسكرية استولت على السلطة في غفلة من الزمن، أو نصف متعلم جاء بقطار أميركي، أو متملق أتقن الدسائس والخيانات والغدر، فأصبح القائد الملهم، أو من حملتهم الدبابات الأميركية التي كان يقودها جنود أميركيون لا يقلون جهلا عنهم.

حاولت الدكتاتورية أن تكرّس الأحادية في العراق، على الضدّ من طبيعة المجتمع المدنية وواقع العراق، وللأسف فقد كان صوت عدد كبير من الأدباء مرددا ومكرسا لسردية تنبع من الخراب نفسه، إن المنافحين عن الأحادية، أشاعوا أن العراق بلد له خصوصيته التي تميزه عن بقية البلدان، ولا يمكنه أن يتوحّد مع أيّ بلد، فهو متعدد ومتنوع، بينما الحقيقة، أن جميع بلدان العالم قاطبة، متعددة لغويّا أو عرقيّا أو قوميّا أو عقائديّا، فأين ما يدعونه من تفرد فردانية للعراق إذن؟

أشعر أن مَن يرى نفسه الأهم والأوحد، ويمجّد بَجيله، هو دكتاتور بلا سلاح، وهو ابن بارّ لثقافة الفرقة الناجية التي دخلت على ثقافتنا العربية الإسلامية بعد احتلال السلاجقة لبغداد وتكريسهم لهذه الثقافة التي نسبوها ظلما وزورا وبهتانا إلى مؤسس الإسلام، لتترسخ في الوعي واللاوعي الجمعي، ولأن حديثنا عن الشعر والأجيال الشعرية، فهي ماثلة أمامنا عبر تمجيد الذات، وإلغاء الآخرين. كأن لا مكانة للشاعر ولا أهمية له إلاّ بإلغاء الجميع، ومَن لم يقم بإلغائهم، فهو يبقي عليهم ليس محبة واعترافا، بل بعدّهم أبواقا ووعاظ سلاطين لسلطته الشعرية العظيمة بحسب فهمه وزعمه.

وبحسب ثقافة الفرقة الناجية، الشاعر يتحقق حضوره، حين يتم تغييب الآخر، أو نفيه أو الاستهانة به في أحسن الأحوال، وهو عكس الفطرة الإنسانية، باعتبار أن الإنسان كائن اجتماعي، أي حضوره يزداد قوة مع الآخر، فضلا عن أن هؤلاء من دعاة الحداثة، والحداثة ترفض الإلغاء والإقصاء، مثلما ترفض أفعال التفضيل والفخامة، مثل أمير الشعراء والشاعر الأكبر والأوحد والأهم وغيرها من إطلاقات لا تمت للإبداع والحداثة بصلة. أما الدفاع المستميت عن الجيل عند عدد من الشعراء فيرجع سببه على ما أظن إلى ثقافة قبلية، ذلك لأنهم استبدلوا القبيلة بالجيل، أي ثمة إزاحة سلبية حدثت لمفهوم العصبية وانتقاله من القبيلة إلى الجيل، بينما الإزاحة الإيجابية في انتقال العصبية من القبيلة إلى الوطن الذي هو فضاء يطلّ على الإنسانية، مما يعني أن أخلاقيات ومُثل الحداثة راسخة بحسها الكوني عند الشاعر، وهذا لم يحدث عندنا على نطاق واسع، مع الأسف الشديد.

التجييل مهمة الناقد، وليست مهمة الشاعر، وما يفعله الناقد، له مبرراته ويعد رأي الناقد حاتم الصكَر صائبا ومقنعا حين أوجزه بهذه الكلمات “لكن التجييل -الذي أؤمن به شخصيّا وألجأ إليه في القراءة- هو تكتيك إجرائي لم ينفرد به النقد العراقي، تم استخدامه في مراحل شعرية في العالم أيضا. وللعراق مراحل ومحارق توزع ثقلها بتفاوت على أجيال الشعراء منذ الأربعينات بوضوح حتى الألفية الثالثة، مما يبرر اللجوء إليه -أي التجييل- معيارا للفرز الفني أو الفكري”.

لكن ما ليس مقنعا تهافت الشعراء على التجييل، لأن الشعر عمل فردي، هوس شخصي، همٌّ يثقل كاهله على الشاعر، لكنه هَمٌّ ممتع، يجد الشاعر فيه ذاته، يلبي غروره، نرجسيته، ينزف أوجاعه ويزرع على الورق قصائد، هي المعادل الموضوعي لحياته وتفكيره.

شاعر من العراق

14