فخّ الذاكرة وقيد الفقدان

يتركّز عمل الروائي على النهل من الذاكرة التي تعدّ بالنسبة إليه أرضا خصبة يستقي منها بذور حكاياته التي يبني عليها شخصياته ومساراتها في عالم الرواية، بحيث يكون اختيار أيّ بذرة حكائية بمثابة بؤرة روائيّة مفترضة.
حين ينسج الكاتب عمله فإنّه يقوم بتحرير أشباح ذاكرته رويدا رويدا من عقالها، يفسح لها المجال كي تتحرّك باحثة عن تجسيد روائي لها، وعن حياة ضاجّة بالأحداث التي تكون نتاج المتخيّل والواقعي معاً، ويمكن أن تغدو مصوّرة لاحقا. يكون تحرير الروائي لما يختزنه من نقاط معتمة في داخله، وفي زوايا قصيّة من مجتمعه كذلك، لعبة الأدب والحياة، تتداخل فيها مختلف المشاعر المتضاربة من حب وكره وضغينة وكآبة وخيبة وأمل.. ناهيك عن بلورة هذه التناقضات من خلال تداخل الشخصيات وتشابك مصائرها وحيواتها.
تقترن الذاكرة بالفقدان، بحيث يكون الفقدان محرّضا للذاكرة على التشبّث بتفاصيلها الدقيقة، وما تكتنزه من مفارقات وقصص وصور تعدّ كنوزا حقيقية حين استثمارها في سياقها، بحيث يكون توظيف الفقدان من أجل تحرير الذاكرة، واعتماد الذاكرة نفسها بوّابة للولوج إلى كهوف الذوات المفقودة والعوالم المعتمة.
الأيرلندي جون ماكغرين (1934 – 2006) عمل في روايته “كي يواجهوا الشمس المشرقة” على تحرير الذاكرة الشعبية من مخلفات الاستعمار والحروب الأهلية، في مسعى منه لتسليط الأضواء على تجارب ثرية في تاريخ الشعب الأيرلندي بوعي ومسؤولية، وبرغبة في فهم متغيرات الراهن ودروس التاريخ وعبره.
اهتم ماكغرين بمسألة الفقدان الذي يظل متجددا لديه، وواقع أن الفقدان يتحول إلى طقس نفسي ملازم لصاحبه، وينطلق من تجربته الذاتية في الفقد، حين فقد في العاشرة أمه سوزانا، وعانى من فقدانها طيلة حياته، وكان فقدانه التالي لطبيعة قريته وأجوائها بعد أن ارتحل إلى دبلن ومنها إلى لندن، وتعاظم شعور الفقد والحنين لديه. وقارب عبر شخصية بطله معاناة المهاجرين الذين يضطرون إلى ترك أوطانهم والهجرة إلى أماكن أخرى بحثا عن الأمان أو العمل أو الدراسة، ولعنة الفراق التي تسكن أرواحهم، فلا يجدون سبيلا للتصالح مع أنفسهم وزمنهم وأمكنتهم، ولا يستدلون إلى طريق للهدوء والسكينة إلا بين جنبات قبر يدفن أحلامهم ويكون مأوى لأجسادهم التي أنهكها الترحال والاغتراب.
العراقية إنعام كجه جي عملت على استثمار الذاكرة الشخصية والجمعيّة في عدد من أعمالها، ولا سيما في عمليها “طشاري”، و”النبيذة”، حيث سعت إلى اقتناص شرارات حكايات تكاد تكون منسيّة لتعيد إحياءها وتوظيفها في سياق إبداعي، وتنسج بناء عليها عوالم ثريّة غدا فيها الفقد أحد مصادر الإلهام، ونقطة للعودة في آن. ناهيك عن تحريرها لجانب من ذاكرة أناس شرّدتهم الويلات والأحداث المؤسفة في أصقاع الأرض بحثا عن استعادة صور من الفقدان الذي هشّم دواخلهم بصيغة ما.
لعلّ ما يخلص إليه القارئ أنّه ليس بإمكان أي روائي النجاة من فخّ الذاكرة وقيد الفقدان، مهما حاول التحرّر من صيغ الماضي، أو رام انطلاقا نحو عوالم مستقبلية متخيّلة.. ولعلّ اللافت هنا أنّ هذه الفخاخ والقيود المتخيلة ما هي إلّا فضاءات شاسعة للإبداع والحريّة للكاتب.