فاليري زناتي: ذاكرة قسنطينية

الأحد 2016/07/10
فاليري زناتي كاتبة جريئة تكتب المسكوت عنه جزائرياً وفرنسياً

في روايتها الأخيرة «جاكوب، جاكوب» (صدرت -مؤخراً- في طبعة جديدة، بعد طبعة أولى، 2014)، تكتب فاليري زناتي عن جزائريين منسيين، عن جزائريين سقطواً -سهواً أو عن قصد- من كتب التّاريخ ومن المناهج المدرسية، عن جيل قام بما يجب القيام به، عن الآلاف من الجزائريين الذين شاركوا، في الحرب العالمية الثّانية، ضدّ النّازية، قبل أن تتوارى ذكراهم إلى الخلف، في ظلّ حرب الذّاكرة القائمة بين الجزائر وفرنسا من سنة 1962 إلى اليوم.

بطل الرّواية، التي لاقت اهتماماً نقدياً، منذ صدروها في فرنسا، ونالت جائزة «ليفر أنتر»، جاكوب (أو يعقوب) ملكي، شاب من يهود قسنطينة (الكاتبة نفسها أصولها من قسنطينة)، يضطر إلى مغادرة بيت العائلة، ترك أمه واخوته، هجر حياة البؤس، التي عاش وتربّى فيها، لينتقل إلى بلد (كان يبدو له بعيداً)، لم يكن يعرفه سوى القليل هو فرنسا، هناك خلف البحر الأبيض المتوسط، ليخوض حرباً كان يجهل أسبابها الحقيقية، وخلفياتها، تجنّد، مثله مثل آلاف الآخرين من الجزائريين، لخوض معارك ضد النّازية، في هذه الحرب الفظيعة، سيكتشف أشياء جديدة، لم يكن يعرفها في حياته القسنطينية البسيطة، سيصادف الحبّ، وخصوصا البرد وقساوة الحرب، ورائحة الموت، ويدرك أن الحياة أكثر هشاشة، ممّا كان يعتقد في قسنطينة، كان عليه أن يُضحّي من أجل فرنسا، التي لم تكن تقرّ بحقوق مواطنيه، وتنظر إليهم كصنف أدنى من الفرنسيين المعمّرين في البلد.

فاليري زناتي (1970-) كتبت عن جزائر أربعينات القرن العشرين، من دون أن تسقط في فخّ «تمجيد الاستعمار»، ففي الجزائر، من النّادر أن نكتب عن الحقبة الكولونيالية نصاً إنسانياً، يهتم بالمصائر البشرية، بدل إدانة الاستعمار، من دون التّعرض لجملة من الاتهامات الجاهزة، ومن «التّخوين» أحياناً، خصوصاً إذا كان الكاتب من الضّفة الشّمالية من المتوسط.

ففاليري زناتي تعيد القارئ، في روايتها الأخيرة، إلى قسنطينة أربعينيات القرن الماضي، قسنطينة مالك حداد وشيوخ موسيقى المالوف، تحكي قصصا من مسارات عائلية، وأخرى من عذابات «الأهالي» (كما كان الفرنسيون يسمّون الجزائريين)، في كسب عيشهم، وكيف فُرض على الشّباب آنذاك الالتحاق بالجيش، وتوجّب عليهم تلبية نداءات «الوطن» لخوض حرب لم تكن تعنيهم، بشكل مباشر.
جزائريون خارج التاريخ

سبق للمخرج رشيد بوشارب (1953-) أن تحدّث عن هؤلاء «الجزائريين المنسيين»، في فيلمه الشّهير «أنديجان» (أهالي، 2006)، الذي عُرض في المسابقة الرّسمية من مهرجان «كان»، وبعث نقاشاً حاداً حول وضع المحاربين القادمين من شمال أفريقيا، في الحرب العالمية الثّانية، انتهى بقرار من الحكومة الرّسمية بمساواة منح اﻟ«80 ألفا» من أفارقة وشمال أفريقيين، مع نظرائهم من الجنود الفرنسيين السابقين.

فإلى غاية 2006، كان المحاربون الفرنسيون يتلقّون تعويضات أعلى من تلك التي كانت تصل نظراءهم من جنوب المتوسط، رغم أن جميعهم خدموا في الحرب نفسها، وبالمجهود ذاته، لكن التمييز بينهم استمر عقودا طويلة. لكن، سرعان ما انتهى الجدل، الذي رافق عرض الفيلم، وعاد المحاربون القدامى إلى دائرة النّسيان، ثم جاءت رواية «جاكوب، جاكوب» لتفتح دفتر السّجال من جديد، وتلعب واحدا من أدوار الأدب، في أن يحرّك الرّكود، أن يبعث الأسئلة الحرجة، أن يواجه النّسيان، وأن يستفز الجماهير.
فقد أثبت العقود الماضية أن لا القارئ عليه يتكّل، على الأدب، القادم من الجزائر، لطرح قضايا «مفخّخة» في العلاقة الصّادمة بين الجزائر وفرنسا، فكثير من الكُتاّب يتجنبون «المسكوت عنه» من التّاريخ الكولونيالي تجنبا للكليشيهات التي قد يرميهم بها القارئ أو النّقد وهي الحنين إلى الاستعمار.
كما أن ما كُتب في روايات عن الماضي الفرنسي، في البلد، لا يخرج عادة عن السّرديات الرّسمية للدّولة، لا يخرج عن حدود المتعارف عليه، فهل يدرك الكاتب الجزائري أن الماضي لم يكن كلّه رمادياً، وأن الكتابة عن «المنسيين» واجب عليه؟

كاتب من الجزائر

14