فاروق حسني الذي حرّر الرسم المصري من ركام ماضيه

حين يكون الرسام موظفا كبيرا في الدولة فلا بد أن يعيش نوعا من الازدواج الذي قد لا يكون لصالح تكريس نزعته الفنية التي هي سلوك داخلي لا تقره لياقات الوظيفة الرسمية.
فاروق حسني كان استثناء في ذلك كما لو أنه لم يكن الشخص نفسه. كان يمارس وظيفته بكل ما لديه من مواهب صامتة وكان في الوقت نفسه يرسم بكل ما لديه من خيال متمرد.
تجربة فريدة من نوعها في العيش المزدوج. الموظف بقوة والرسام بقوة. وفي كلا الدورين كان الإلهام حاضرا. قدر لافت من الحرية المتمردة جعله يعيش الاختلاف عنصر بناء إيجابي.
أعمال حسني تكشف عن شساعة عالمه الذي يجمع أحيانا بين التجريد والتشخيص، مع أنه لم يترك للتشخيص إلا مساحات محدودة في لوحاته
ما أنجزه حسني وزيرا ميزه باعتباره صانع أحداث ثقافية كبرى وليس مجرد موظف مؤقت. كان نجما سواء تعلق الأمر بالمواقف السلبية منه أو الإيجابية.
ولكن الموظف حتى لو كان من نوع حسني لا بد أن يأفل نجمه. الوظيفة لها عمر، أما الفن إن كان عميقا وقويا فإن أثره لا يختفي. فن فاروق حسني من ذلك النوع الذي يبقى أثره طازجا.
بمفردات قليلة وأحيانا يكتفي بعناصر الرسم الأساسية، الخط والمساحة، الفراغ والامتلاء، لطخة هنا وضربة هناك وانتقال متشنج بين السكون والحركة. تلك وصفة لا يتبعها حسني جاهزة. ربما لأنه يحاول أن ينقي الجمال من كل ما يلحق به من مفردات تثقله بالزينة الفائضة. ربما لأنه يحتفي بممارسة الرسم بطريقة استثنائية لأنها تنقله إلى عالم لا يتكرر. وربما أخيرا لأن اللوحة التي يرسمها هي ما يراه في مرآة تتشظى ما إن يكمل عملية الرسم.
ولأنه ينتمي إلى جيل الرسامين الذي ظهر في ستينات القرن العشرين فقد عكست تجربته الفنية معادلة الانفصال عن كل المستوى النظري الذي كان سائدا قبل ذلك وبالأخص في مجال البحث عن هوية قومية للفن في ظل شعارات الأصالة والتراث في مقابل بعث الروح في الهوية الشخصية التي تنفتح بطريقة تلقائية على المنجز الفني العالمي.
سيرة مدهشة
يمكن اعتبار تجربة حسني الفنية نموذجا مثاليا لتلك النزعة المنفصلة محليا والمتصلة عالميا. لذلك فإن لوحته التجريدية لا تنتمي بأي حال من الأحوال إلى الهوية المصرية الجاهزة. ولكن ذلك لا يعني أن الفنان الذي عاش جزءا من حياته خارج مصر لا يستلهم الحس المصري في النظر إلى الطبيعة والأشياء التي تحيط به. من المناسب هنا القول إن حسنى قد طور ذلك الحس وحرره من شبهته الشعبية.
ولد عام 1938 في الإسكندرية. وبعد أن تخرج من كلية الفنون بالإسكندرية عُين مديرا لقصر الثقافة فيه، ثم أصبح وكيلا للأكاديمية المصرية بروما، ومديرا لها ومستشارا ثقافيا في السفارة المصرية في العاصمة الإيطالية أيضاً، ومن عام 1987 إلى 2011 تولى منصب وزير الثقافة.وبالرغم من غزارة إنتاجه فإن أعمال حسني تكشف عن شساعة عالمه.
حسني ينتمي إلى جيل الرسامين الذي ظهر في ستينات القرن العشرين، وقد عكست تجربته الفنية معادلة الانفصال عن كل المستوى النظري الذي كان سائدا قبل ذلك
وهو عالم يجمع أحيانا بين التجريد والتشخيص. غير أنه لم يترك للتشخيص إلا مساحات محدودة في لوحاته أراد من خلالها أن يمرر رسالة اجتماعية أو تاريخية ولم يكن راغبا في استرضاء الجمهور من خلال لوحات يغلب عليها مفهوم المصالحة.
بعد معرضيه الفرديين اللذين أقامهما في الإسكندرية عام 1968 أقام حسني أكثر من ثلاثين معرضا شخصيا في القاهرة وباريس وروما وفينيسيا وطوكيو وجدة والمنامة وفيينا وبيروت والشارقة والكويت والدوحة ودبي وهيوستن.
نال جوائز عالمية عديدة منها جائزة البحر المتوسط للفنون عام 2006، وسام فلليني الذي تمنحه منظمة اليونسكو عام 2007 وأخيرا جائزة شخصية العام الثقافية التي قدمتها له الشارقة عام 2012.
من موقعه وزيرا للثقافة أنجز حسني ما لم ينجزه أحد من قبله. ومن الصعب هنا إحصاء الأعمال التي يقف وراءها في مجال ترميم الآثار وأهمها تمثال أبوالهول وإنشاء المتاحف كما قام بترميم وتطوير مسارح الدولة وإنشاء 28 بيتا وقصرا للثقافة من بينها قصور متخصصة بالتراث والسينما والتذوق الفني والحرف التقليدية وتطول القائمة، غير أن استحداث المركز القومي للترجمة الذي يترجم أعمالا أدبية وفكرية من ثلاثين لغة لا بد أن تكون له الصدارة.
الرسام هو الذي يبقى
سيكون حسني حاضرا في الذاكرة المصرية باعتباره وزيرا. ولكن الرسام سيكون له دائما موقع مميز في تاريخ الحداثة الفنية المصرية. ليس لأنه خلق أسلوبا اهتدى من خلاله إلى حيزه الحيوي الخاص فحسب، بل لأنه أيضا طور الرؤية الفنية المصرية وحررها من ركام الماضي بحيث صار من الممكن بالنسبة إلى الفنان المصري بعد ما أنجزه حسني فنيا أن ينفذ إلى الفضاء العالمي بيسر.
يحصي حسني لحظات الانفعال النادرة التي يعيشها. رسومه تذكره بفكرة الحياة التي عاشها. سيكون الشخص الآخر، قرينه الذي يعيش معه بل هو صانعه الذي ينقل خياله من العالم اللامرئي إلى عالم المرئيات. ذلك هو الرسام الذي لم تنتصر عليه المناصب الرسمية ولم تهن عزيمته بسبب الحملات التي شنت على قرينه بل صار أقوى وهو يقيم معرضه الثاني في المنامة عام 2022.
تأثر الفنان بخطية سولاج وتبقيعية ميشو وتشنج هارتونك العنيف، غير أنه احتفظ برقته وعذوبة وانسيابية خطوطه وطراوة مساحاته اللونية التي يضربها بفرشاة تقع في مكانها. ذلك ما يحدث للخطوط التي لا تُخطئ طريقها إلى هدفها. لا يحتاج الشكل الذي يخلقه حسني إلى إعادة نظر لكي يكون خالصا ونقيا. إنه يهبط إلى سطح اللوحة بارتجال يستند إلى انفعال تعبيري، نادرا ما يقع.
يترك من ورائه أثرا ناعما
يكافح من أجل أن تكون لوحته أكثر نقاء. تجريدي كما لو أن العالم كان يستمد قوته من غموضه. تلك حقيقة يسعى الفنان للإفصاح عنها من غير أن يقع في التبسيط. ذلك ما يضع حسني في مكانه فنانا يسعى للارتفاع بذائقة الجمهور الفني من غير أن يهبط إليه، فهو لم يقع في فخ الشعبوية. ذلك التيار الفني الذي انتشر في مصر منذ خمسينات القرن الماضي.
قرأت خبرا عن مسابقة للنحت ترعاها "مؤسسة فاروق حسني للثقافة والفنون". الخبر يبدو عاديا وهو ليس عاديا إذا تعلق الأمر بالرجل الذي حرره الرسم من التزاماته الوظيفية. ولكن فاروق حسني يفكر بطريقة مختلفة.
فهو فنان صار بمضي الوقت أشبه بمؤسسة. ذلك ما يدفعه إلى رعاية التجارب الفنية الجديدة. تلك فكرة لا تضيف إليه شيئا غير أنها تشكل حدثا غير مسبوق في الحياة الفنية المصرية.
موقعه كوزير للثقافة مكّن حسني من تحقيق ما لم ينجزه أحد قبله في مجال ترميم الآثار وأهمها تمثال أبوالهول وإنشاء المتاحف كما قام بترميم وتطوير مسارح الدولة وإنشاء 28 بيتا وقصرا للثقافة
"سأكون الآخر" ذلك هو شعاره في الفن كما في الممارسة الثقافية. يفكر حسني بطريقة شاملة. وهو ينقل الحياة العامة إلى عالم يخضع لشروطه النخبوية المترفة. لقد ملأ حسني الحياة الثقافية في مصر صخبا ولكنه الصخب الخلاق الذي سيترك من ورائه أثرا ناعما.
فاروق حسني رسام تجريدي ذهب بأسلوبه إلى أقاصي التجريدي. هناك يتمتع بنقاء الألوان وصفاء الخطوط. إنه يقيم هناك ويتأمل الحياة التي عاشها وقد لا يصدق أن الرسام استطاع أن ينجز أعمالا عظيمة تذكر به رساما وصاحب أفكار تنتمي إلى عالم الخلق.