فاتن النواوي مهندسة صور وكلمات ومشاعر

النواوي تصنع تفاصيل واقعية لتنقيها من صفاتها اليومية تقطع الخيوط التي تعيدها إلى مجالها الأصلي، تزيح عنها ثقلها لتحلق بها بعيدا ومن ثم تضفي عليها طابعا أسطوريا.
الأحد 2018/04/15
تصنع عالما بأقنعة كثيرة

أتثيرها الحياة بمشاهدها المتقلبة أم تستفزها السيرة الخفية لحياة تأخذ وقائعها هيئة صور غامضة؟ الفنانة المصرية فاتن النواوي تهبنا من خلال لوحاتها فرصة مزدوجة؛ متعة أن نرى ما يُرسم كما لو أنه هدف للعيش وقوة إلهامية مجاورة تدفع بنا إلى حافات التأمل ونحن نفكر بما لم يُرسم فيما تعصف بنا عاطفته.

معجم لحياة مرتجلة

فاتن النواوي رسامة تحن إلى زمن الأساطير غير أنها لا تُحل الحكاية التي تعزف عن روايتها كاملة محل الواقع الذي لم تنقطع عنه وعن النظر إليه بإجلال. خفة نزعتها السريالية هي نوع من المصالحة بين الواقع وخياله، بين الشيء ومغزاه العميق. لذلك فإن كائناتها تظهر وتختفي في مشهد أعيد تأثيثه بما ينسجم ووجودها الجديد الذي يتطابق مع مصيرها.  

تلتقط الفنانة تفاصيل واقعية لتنقيها من صفاتها اليومية، تقطع الخيوط التي تعيدها إلى مجالها الأصلي. تزيح عنها ثقلها وقوة الجاذبية التي تسحبها لتحلق بها بعيدا ومن ثم تضفي عليها طابعا اسطوريا، كما لو أن تلك التفاصيل تنتمي إلى زمن سرمدي، وهو ما ييسر للفنانة سبل استعادتها عن طريق الحلم باعتبارها جزءاً من دورة خلق لا تنتهي.

اللوحة ترسم نفسها بنفسها
اللوحة ترسم نفسها بنفسها

الآخر الذي يقول الحقيقة

غير أن هناك جانبا آخر يمكنه أن يقطع الطريق على كل ما يمت إلى الوصف بشقيه الواقعي والسيريالي بصلة. يتمثل ذلك الجانب بمسحة تعبيرية تحضر هي الأخرى بخفة فتتمكن من أن تحدث تغييرا في المعادلة كلها عن طريق ما تنطوي عليه من شحنات رمزية.

 فالنواوي في الأساس شاعرة وهو ما يعني أن عالما تقيمه لا بد أن يتمتع بقوة المجاز. ذلك هو السر الذي يقف وراء ما نشهده في أعمالها من صدام مدو بين ما هو حسي وما هو حدسي.

في معرضها “الأوديسة والسيرك” الذي أقامته عام 2014 في قاعة بيكاسو بالقاهرة، سعت إلى استعراض مفردات معجمها المزاحة عن معانيها المتاحة. وهو معجم لحياة مرتجلة وباذخة بإيقاع مخفياتها طالما تعلق الأمر بشاعرة.

ليست الغاية من استلهام الفنانة لأوديسة هوميروس الوصول إلى “ايثاكا” كما كان الأمر في العمل الأدبي المتخيل. أوديسيوس بطل الملحمة الإغريقية لن يكون حاضرا بنفسه هذه المرة. رحلته بقوة إيحائها الرمزي هي الضالة، بمعنى أن الرحلة تحل محل ايثاكا. أما السيرك فهو ذلك الواقع العبثي الذي نسميه مجازا حياة. هناك شيء من العبث يتخلل كل ما نفعله ونقوله.

بالنسبة للفنانة فإن ايثاكا هي كل مكان يحلم المرء بالوصول إليه. غير أن ذلك لا يكفي لوصف ما تنطوي عليه عملية الرسم من استبدال عالم بعالم آخر. وهو ما يصح حين يتعلق الأمر بالسيرك حيث نستبدل قناعا بآخر، وهو ما يعني أننا سنكون على موعد دائم مع الآخر الذي يسكننا.

ولدت فاتن علي أحمد النواوي في القاهرة عام 1951. درست هندسة الاتصالات ونالت شهادة الماجستير فيها. ومارست عملها في ذلك الاختصاص بين سنتي 1975 و1998. عام 1992 نالت شهادة الدبلوم من المعهد العالي للنقد الفني، أكاديمية الفنون. كما درست السيناريو والإخراج في المعهد العالي للسينما.

قوة إلهامية
قوة إلهامية 

حارسة صور وكلمات

عام 1998 أقامت أول معارضها الشخصية ”اتيليه القاهرة”، بعده أقامت أكثر من ستة معارض شخصية. أصدرت النواوي ثلاثة كتب شعرية هي “أحلام الطمي والفخار” 1991 و”برديات الأشعار” 1992 و”سفر الذهول” 1995. وإذا ما كانت الفنانة قد تأخرت في إقامة معرضها الشخصي الأول فإنها كانت حاضرة في المشهد التشكيلي المصري منذ عام 1980.

تبدو سيرة حياة النواوي شديدة التعقيد بسبب تشعب مساراتها؛ فهي بحكم الدراسة والمهنة مهندسة أولا، كما أن دراسة النقد الفني قد تعطل أحيانا مزاج الخلق الفني وبالأخص حين يتمتع المرء مثلما هو حال النواوي بحساسية عالية في مجال التذوق الجمالي.

 ولأن الفنانة كانت قد شغفت بالشعر في سن مبكرة فإن ذلك المثلث الذي يتوزع بين الهندسة والنقد والشعر لا بد أن يكون مغلقا على ما فيه من ثروات. لذلك كان الرسم بمثابة معجزة في حياة، كان من الممكن أن تكون مترفة من غيره. غير أن المرء ما إن يتأمل رسومها حتى يشعر أن ما حققته الفنانة في تلك الرسوم كان هو الخلاصة لعمل المهندسة ومزاج الناقدة وحساسية الشاعرة.

 تلك المرأة هي حارسة صور هي بمثابة ألغاز يلذ للمتلقي أن يسترق السمع إلى أصواتها ويشم روائحها ويفلت به مزاجها النافر من مساءلة الواقع عما يقود إليه.

لقد هندست فاتن النواوي خيالها عن طريق الرسم فكانت ترسم خطة، تراقبها بعين النقد غير أنها تسلمها في الوقت نفسه لرياح الشعر التي تضفي عليها الكثير من صفات المجازفة التي هي ليست من جنسها.     

“وقال المعلم: تعلم ثم أنس ما قاله المعلم وانطلق” تقول النواوي. أتخيلها وهي تمزج الأصباغ مطمئنة إلى ما فعلته حين مزجت واقعية محمود سعيد بسريالية رمسيس يونان بحروفية حامد عبدالله فهي الوارثة التي يحق لها أن تفعل بإرثها ما تشاء. هذه فنانة تهندس علاقتها بالآخرين بطريقة شاعرية تغلب عليها الرغبة في التجديد والإضافة.

تنظر النواوي بإجلال إلى الماضي غير أنها لا تقدسه. في إحدى لوحاتها تجلس القرود لتضحك مما يجري من حولها. الفنانة التي تجمع في إحدى مقولاتها الفن الفرعوني وفن الكاريكاتير والفن المفاهيمي في سلة واحدة تعرف أن إرثها الثقيل هو من النوع الذي يجب تصريفه بطريقة متقنة وإلا فإنه سيكون أشبه بالوصية القاتلة.

حارسة صور
حارسة صور 

وهو ما هداها إلى فكرة السيرك. فالسيرك حياة كاملة وهو في الوقت نفسه يشير إلى العالم باعتباره متاهة. تسر رسوم النواوي حين تبشر بالحياة من طرف رمزي حيث الأمومة والانفتاح على الطبيعة وإزاحة الفواصل بين الكائنات البشرية والحيوانية هم عناصر بناء عالم يفيض بقدرته على صنع السعادة.

 غير أن هناك ألما يستشعره المرء في كل رسوم النواوي. ذلك الألم هو ما يشير إلى نوع من الشعور بالفقدان الذي يتمحور حوله عالم الفنانة التي تسعى بكل قوتها إلى تأجيل الوصول إلى هدف بعينه. وهو ما يوضح شيئا من مفهومها المتعلق بالرسم.

الشاعرة في خلاصاتها

تقول الفنانة “أما اللوحة فإنها ترسم نفسها بنفسها”، بالنسبة لفاتن فإنها تمد يدها لتجد مادتها وتقنياتها وأسلوبها وكل ما من شأنه أن يشكل إطارا لتجربتها هو بين يديها. هناك شيء جاهز صارت تتقن اللعب به وعليه. لقد يسرت فلسفتها في العلاقة بالأشياء المحيطة بها أن تقوم بما تراه مناسبا لتجربتها المزدوجة في العيش والرسم معا.

 الحياة الخفية كما الحياة الواقعية كلتاهما تشكلان مصدرا لوهم اسمه الجمال. ولأنها وضعت كل الحضارات المصرية من فرعونية ورومانية وقبطية وعربية رهن يديها فإن حلولها الشكلية كانت كثيرة.

وهو ما جعلها قادرة على أن تمزج بين الواقعية والسريالية والتعبيرية في لوحة واحدة بالرغم من أنها وضعت في حسابها أن تتخلى عن كل شيء من أجل أن تمضي بتجريدياتها إلى الحافات البعيدة، حيث لن يكون هناك شيء في انتظارها سوى إيقاع الحروف، وهي شاعرة.

غير أن الفنانة التي يمكن تأويل رسومها سياسيا كانت دائما تميل إلى رسم خالص، رسم كلاسيكي لا يشير إلى شيء سواه. أعتقد أن الشاعرة ستبتسم من استنتاج من ذلك النوع. أما الناقدة والمهندسة فإنهما ستصمتان عن رضا. ذلك لأنهما تعرفان أن الشاعرة نفذت ما ترغبان فيه.

9