فاتح المدرس بوابة الفن التشكيلي السوري إلى العالمية

فيلسوف الألوان الذي كان يخاف من الأصفر والأخضر ويتعامل معهما بحذر.
الخميس 2021/07/08
لوحات المدرس شاهد على حكايات الأرض والإنسان

يعتبر الفنان التشكيلي السوري الراحل فاتح المدرس من أهم الشخصيات الثقافية على المستويين السوري والعربي، ليس فقط على صعيد التشكيل، الذي قدم فيه بصمة مازال تأثيرها ماثلا إلى اليوم، بل على أصعدة ثقافية متعددة ومتنوعة كالأدب والموسيقى وفلسفة اللون والضوء، ومساهمته في الدفع بالمشهد الثقافي بشكل متكامل نحو التجدد من ناحية والتجذر في بيئته من ناحية أخرى.

دمشق - عرف الفن التشكيلي السوري المعاصر العالمية من بوابة اسمها فاتح المدرس، فهذا الفنان كان العلامة السورية الأكثر حضورا في عالم الفن التشكيلي، بانيا لنفسه ولغيره مدرسة فنية جمعت عملية الغرب وروحانية الشرق، ثم انغمست في أكثر تفاصيل البيئة والحياة السورية خصوصية.

المدرس الذي مرت ذكرى وفاته الـ22 قبل أيام، وصف بأنه فنان متعدد الثقافات يعمل في سياق السريالية العالمية بوصفها حركة فكرية تجاوزت الغرب والشرق، ليكون نتاجه حصيلة تجربة حياتية طويلة وغنية وخلاصة دراسة للتفكير التجريدي والمفاهيمي والفلسفي وقراءته للواقع الاجتماعي السياسي فضلا عن تأثّره بالبيئة والحضارة السورية ومكوناتهما الغزيرة وشديدة التنوع.

صديق سارتر

لم تأت التجربة الفنية للمدرس من فراغ، فحياته كانت حافلة بالمآسي منذ مجيئه إلى هذا العالم في قرية حريتان شمال حلب عام 1922 حيث شهد مقتل والده وهو طفل صغير، وتحملت والدته عبء تربيته مستعينة بأخواله تارة وبأعمامه تارة أخرى، ولكنه ظل شديد التعلق بها حتى بعد وفاتها فقال في سنواته الأخيرة “أمي وشقائق النعمان هما أكثر ما أحببت في هذا العالم فكنت دائما وأنا طفل أقطف هذه الزهور من البرية وأحملها إليها”.

فاتح المدرس فنان متعدد الثقافات عمل طيلة تجربته على ترسيخ حركة فنية تجاوزت ثنائية الغرب والشرق

السنوات التي قضاها الفنان في الريف الحلبي ضربت عميقا في ذاكرته فما زلنا نشاهد صدى لها في لوحاته، فهو لم ينس ما فيها من صخور ونباتات وحيوانات، وقد كان يحب كثيرا صوت الريح ويعتبرها وصداها على الأشياء كالأعمدة والأشجار والعيدان الصغيرة من أكثر الأمور تأثيرا عليه.

أوّل من اكتشف موهبة المدرس الفنية كان معلما في المدرسة الابتدائية، فكان يطلب منه وهو تلميذ في الصف الرابع رسم مناظر طبيعية، وعندما كان ينجز اللوحة كان يتأملها بإعجاب ويقول له “كويّس” ما جعل فاتح الطفل يشعر بأنه ولد رسّاما.

وبعد أن نال المدرس شهادة التعليم الثانوي سافر إلى بيروت ليدرس في الجامعة الأميركية اللغة الإنجليزية وبعد أن عاد إلى حلب إثر انتهاء دراسته عمل مدرّسا وشرع يطور موهبته الفنية ويوسع مداركه فيها، فشارك خلال عام 1947 في المعرض الأول للفنانين التشكيليين السوريين في مدرسة التجهيز بدمشق ومعرض الفنانين العرب في بيت مري بلبنان لينظم أول معرض فردي له سنة 1950 في نادي اللواء بحلب.

وكان عام 1952 الأهم في تجربة المدرس وفقا للناقد التشكيلي سعد القاسم ففيه شارك بمعرض أميركي حيث نال جائزة على لوحته “راقصة العصر” ونالت لوحته الشهيرة “كفر جنة” جائزة المعرض الثالث للفنون التشكيلية في المتحف الوطني بدمشق والتي اعتبرت فاتحة اتجاهات الحداثة في الفن التشكيلي السوري.

وفي عام 1954 سافر المدرس إلى روما حيث درس لمدة ست سنوات في أكاديمية الفنون الجميلة، وكان أستاذه فرانكو جنتليني، ويعتبر أعظم فناني بلاده في زمانه، قد طلب منه ألاّ ينساق باتجاه الغرب وأن يبقى في حلمه الشرقي، ودعاه لأن يكرّس شخصيته الخاصة.
وبعد رجوعه إلى سوريا سنة 1960 كان المدرس من أوائل الفنانين الذين تولوا التدريس في كلية الفنون الجميلة المفتتحة حديثا، ولكن شغف الفن ودراسته دفعا به إلى أن يسافر ثانية بعد تسعة أعوام إلى باريس، حيث حصل على درجة الدكتوراه من أكاديمية الفنون الجميلة.

وخلال سنوات دراسته وطد المدرس صداقة عميقة مع المفكر الفرنسي جان بول سارتر الذي اقتنى له أربع لوحات وترجم مقطوعات شعرية لفاتح من الإيطالية إلى الفرنسية، ولكن هذه الصداقة توقفت بعد أن جنح سارتر في سنواته الأخيرة إلى دعم إسرائيل.

فنان شامل

Thumbnail

المدرس هو أحد الفنانين العرب القلائل الذين تباع لوحاتهم في مزادات الفن العالمية بأسعار عالية، وقد كان أحد الأعضاء المؤسسين لنقابة الفنون الجميلة في سوريا سنة 1967 ثم تولى رئاستها لـ11 سنة، فتحلق حوله عدد كبير من الفنانين الشباب وطلاب كلية الفنون وكان تأثيره عليهم كبيرا، كما يوضح القاسم وساهم في دفعهم نحو إطلاق حريتهم الإبداعية والبحث في التراث المحلي والموروث الإبداعي وكثيرا ما كان يساهم بالحديث عن تجاربهم في الندوات التي تقام بمناسبة معارضهم.

بنى المدرس علاقات شديدة الصلة مع مثقفين وأدباء سوريين وعرب كبار أمثال عبدالرحمن منيف وأدونيس ومحمد ملص ومما يسجل له أنه قام خلال حياته بإهداء لوحاته إلى أصدقائه بل إنه أكثر الفنانين إطلاقا إهداء للوحاته.

أثر المحن التي طالت حياة المدرس ظهرت جليا في لوحاته فهو فقد طفلين أنجبهما من زوجته الأولى الإيطالية جراء حادثين منفصلين، ورغم قوله إنه تعامل مع هاتين المحنتين بصبر وشجاعة إلا أنه بوسعنا رؤية أطياف أطفاله بأعماله في رمزية يكسوها الحزن والأسى.

الفنان كان يرى أن الأبيض سيد اللوحة، أما باقي الألوان فضيوف مؤقتون بينما يميل إلى الأحمر في لوحاته السياسية

وفي عالم الألوان كان المدرس يخاف من الأصفر والأخضر ويتعامل معهما بحذر بينما كان يميل إلى الأحمر في اللوحات ذات المضمون السياسي، وكان يميل إلى الذهبي متأثرا باستخدامه في الفنون القديمة كالبيزنطية ويستخدمه لـ“قتل” بعض الألوان في اللوحة، وكان يرى أن الأبيض هو السيد في اللوحة، أما باقي الألوان فضيوف مؤقتون، كما استخدم الأزرق بعنف وأعطاه طابعا حيا ومقاتلا بصورة أكثر ذكاء ونبلا.

وعبر دراسته العميقة لأعمال كبار الفنانين ولاسيما الحداثيين منهم توصل إلى أن اللوحة نتاج انفعالات محددة ومكان وزمان معينين، لذلك وجد نفسه غير قادر على تقليد نفسه ورسم لوحة تشبه سابقاتها.

وعبر مسيرة حياته نال المدرس الكثير من الجوائز والأوسمة محليا وخارجيا من وسام الاستحقاق السوري الذي منح له بعد وفاته سنة 2005 وجائزة الدولة للفنون سنة 1985 والجائزة الأولى من أكاديمية الفنون الجميلة بروما والميدالية الذهبية لمجلس الشيوخ الإيطالي وميداليات عديدة فنية عربية وأجنبية.

وطافت لوحات المدرس في 20 معرضا فرديا في سوريا والعالم فتنقلت بين أميركا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا ولبنان والإمارات كما واظب على المشاركة في جميع المعارض الجماعية داخل البلاد وخارجها ولا سيما التي أقيمت بالتعريف بالفن السوري.

كان المدرس يقول عن نفسه «لست تعبيرياً في اتجاهاتي التشكيلية ولست سريالياً ولست تجريدياً، بكل بساطة أنا رسام سوري عربي حديث أرفض الأخذ بالمفاهيم المستوردة أو المسبقة الصنع أنا شاهد على جمال الأرض والإنسان كما أنا شاهد على أحزان عصري».

الجانب الآخر من إبداع المدرس تجلى في الأدب فترك لنا ديوانين شعريين مشتركين “القمر الشرقي على شاطئ الغرب” مع شريف خزندار و”الزمن السيئ” مع حسين راجي ومجموعة قصصية بعنوان “عود النعنع” وأنتجت له المؤسسة العامة للسينما مجموعة من قصصه في فيلم واحد حمل اسم “العار” سنة 1974 عن معاناة الريف السوري.

Thumbnail
14