فاتحة لتغير أميركي سيصيب العالم بعدواه

هل علينا أن نفكر أن العالم الحر لن يتمكن من معالجة أخطائه نقديا إلا بعد أن يعتبر احتجاجات طلاب الجامعات الأميركية أساسا جديدا للنظر إلى مشكلات العالم وفي مقدمتها المشكلة الفلسطينية.
الجمعة 2024/05/10
الطلاب ينقذون أميركا من عارها

بالرغم من أن التظاهرات الاحتجاجية التي تشهدها الجامعات الأميركية لا يمكن أن تؤثر على موقف الإدارة الأميركية المنحاز كليا وبشكل مطلق لإسرائيل في همجيتها والمعادي بطريقة صارخة للشعب الفلسطيني، بغض النظر عن موقفه ممّا جرى في السابع من أكتوبر الماضي، فإنها قد أثبتت أن هناك تحولا كبيرا في الوعي لدى شريحة مهمة من الشعب الأميركي وهي الشريحة التي من شأن دخولها القريب إلى معترك الحياة العملية أن يُحدث تغيرا عميقا في الفصل بين الموقف من إسرائيل والموقف من اليهودية أو ما يدخل في ما يُسمّى بالعداء للسامية.

سيكون واضحا في وقت قريب وبدفع من الضغط الشبابي أن خرافة “العداء للسامية” وقد احتمت بها الأنظمة السياسية الغربية في تأييدها للعدوانية الإسرائيلية ما هي إلا خرقة مهترئة تجلب لمَن يرفعها قدرا من العار في مقابل ما تقوم به إسرائيل من عمليات إبادة تذكّر بالنازية وتُعيد إلى الأذهان ما تعرض له اليهود وسواهم من الأقليات العرقية والدينية في أوروبا من إبادة في زمن صعودها. ما تعلّمته الشعوب من تلك الكارثة لم تضعه الأنظمة السياسية التي احتواها المحور الأميركي في حساباتها، وبدأت مأساته العنصرية قبل أكثر من سبعين سنة وليس هناك في الأفق من أمل في انتهائها.

◄ طلاب الجامعات الأميركية وهم يقومون باحتجاجاتهم إنما ينقذون بلادهم من ذلك العار. يكفي أن هناك العار في فيتنام والعار في أفغانستان والعار في العراق

لم تنته أوروبا التي كانت تنتحر وقد أسقطتها النازية في وحول أردأ أفكارها العنصرية عن الآخر عادت إلى الأزمة الخانقة التي تهدد ضميرها الإنساني ومكانتها الأخلاقية. ولكن ذلك كان أيضا مؤشرا على تدني الإرادة السياسية لدى الأنظمة الحاكمة في أوروبا بعد أن صار ميسّرا استضعافها وصارت تبعيتها للولايات المتحدة أمرا مفروغا منه. فأوروبا اليوم هي ليست أوروبا الأمس. وليس ظهور نموذج مضحك وفارغ من المعنى الوطني مثل فولوديمير زيلينسكي في أوكرانيا غريبا عليها. أوروبا الضعيفة لم تعد مصدر قوة للعالم الحر. فهل علينا أن نفكر أن ذلك العالم الحر لن يتمكن من معالجة أخطائه نقديا إلا بعد أن يعتبر احتجاجات طلاب الجامعات الأميركية أساسا جديدا للنظر إلى مشكلات العالم وفي مقدمتها المشكلة الفلسطينية التي صارت أشبه بالخطيئة التي لا يكفي الاعتراف بها لغفرانها؟

قاوم النظام السياسي الأميركي التظاهرات الاحتجاجية وحاول قمعها بطريقة أساءت لسمعة الولايات المتحدة التي تكمن رصانتها وجزء عظيم من تأثيرها المعنوي على العالم في جامعاتها. فلا أحد في إمكانه أن يشكك بالحصانة العلمية لجامعات من نوع كولومبيا أو هارفارد أو برينستون. لا يدخل الموضوع في السياسة. تلك مسألة لا تدخل في التجاذبات السياسية. فلا روسيا ولا الصين ولا أيّ دولة في أوروبا نجحت في إقامة جامعات لها كفاءة الجامعات الأميركية وحضورها. لذلك فإن وقوف طلاب تلك الجامعات ضد عمليات الإبادة التي تشهدها غزة، وهو موقف غير سياسي، يمكن اعتباره بداية تحوّل في الوعي السياسي الأميركي. وهو وعي عادة ما يبدأ من الأسفل ولا يُسقط بالمظلات.

◄ سيكون واضحا في وقت قريب وبدفع من الضغط الشبابي أن خرافة "العداء للسامية" وقد احتمت بها الأنظمة السياسية الغربية في تأييدها للعدوانية الإسرائيلية ما هي إلا خرقة مهترئة

ربما يشعر الطلاب وهم ذروة العطاء في كل مجتمع أنهم تأخروا في إنقاذ أميركا من عارها الذي يمثله موقف البيت الأبيض المناصر لإسرائيل دون قيد أو شرط حتى بات الكثيرون يرددون مقولة “إسرائيل هي التي تحكم الولايات المتحدة”. وهي مقولة صارت أكثر إلحاحا على العقل بعد حرب غزة الأخيرة. كان في إمكان الإدارة الأميركية أن تفرّق بين سلوك حركة حماس وهي جماعة لا تنتسب إلى النضال الوطني الفلسطيني وبين أهل غزة الذين لا ذنب لهم سوى أنهم يقيمون على أرضهم التي اختطفتها تلك الحركة. لكنها لم تفعل واندفعت وراء جنون رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي قرر إبادة أكثر ما يمكن من الفلسطينيين الذين يكرههم.

طلاب الجامعات الأميركية وهم يقومون باحتجاجاتهم إنما ينقذون بلادهم من ذلك العار. يكفي أن هناك العار في فيتنام والعار في أفغانستان والعار في العراق. هناك اليوم وعي مختلف لا يسعه أن يقبل عارا جديدا في فلسطين. وبالنسبة إلى الطلاب فإن حركة حماس ليست الفلسطينيين وهي لا تمثلهم كما أن نتنياهو ليس اليهودية والوقوف ضد همجيته ليس معادة للسامية. ذلك تحول خطير في الوعي الأميركي، وفي ظله لن يكون موقف حكومة جو بايدن مهمّا. ما فعله طلاب الجامعات  الأميركية يُذكّر بما حدث في باريس عام 1968 وهو الحدث الذي غير أوروبا. فهل ستكون غزة فاتحة لتغير ستشهده الولايات المتحدة في الأعوام المقبلة؟

8