غياب الهندي الكاريبي البريطاني نيبول كاتب ما بعد الاستعمار

كاتب عاش حياة قلقة ومتقلبة انعكست في أدبه وأفكاره ومواقفه. لغته الادبية الراقية وإبداعه الروائي والرحلي ثمرة اجتهاد شخصية جاءت من دنيا الفقر، لتحتل بفعل الموهبة والاقتدار موقعا متقدماً في الأدب الإنكليزي ومجتمع الادباء الذين يكتبون بالإنكليزية في منفاه الجديد/إنكلترا. رحيله عن الكاريبي وإقامته في بريطانيا ضاعفا من منفى الهوية لفتى هندي نشا في جغرافيا المنفى الأول فإذا بالمنفى الثاني يضاعف القدر الاليم لابناء المستعمرات رغم ما صاحب الوصول إلى أوروبا من نجاح وتالق ورفاه شخصي لكاتب موهوب.
لندن- بعد رحلة طويلة مع الكتابة والمجد رحل فيديادر سوراجبراساد نيبول الروائي البريطاني المولود في ترينيداد، والحائز على جائزة نوبل في الأدب عام 2001. توفي كاتب الروايات والرحلات الكاريبي الأشهر في منزله بلندن عن 85 عاما. وكان نيبول قد بدأ الكتابة في الخمسينات من القرن الماضي وحصل على عدة جوائز كبرى في الأدب خلال رحلة مديدة مع الكتابة والسفر كتب خلالها روايات ويوميات ذاع صيتها مثل “منزل السيد بيسواس” و”في دولة حرة” و”في منعطف النهر”. وكان صاحب سيرة أدبية وحياتية إشكالية أثارت عليه النقاد وجلبت له الشهرة.
وصفته زوجته نظيرة نيبول في بيان صحافي بأنه “عملاق في كل ما حققه” وقالت إنه توفي ومن حوله “من كان يحبهم بعد أن عاش حياة مليئة بالإبداع والاجتهاد الرائعين”.
ولد نيبول في شاغواناس، قرب مرفأ إسبانيا في ترينيداد عام 1932 لأسرة هندوسية هاجرت من الهند. ونشأ فقيرا نسبيا. كان جده يعمل في قطع قصب السكر، أما والده فكان يزاول مهنة الصحافة والكتابة. في سن الثامنة عشرة غادر نيبول إلى إنكلترا إثر حصوله على منحة للدراسة في جامعة أكسفورد، حيث حصل على شهادة في الأدب عام 1953. غادر الجامعة عام 1954 عندما وجد وظيفة مفهرس في المعرض الوطني للرسوم بلندن. وهو يقيم منذ تلك الفترة في إنكلترا لكنه يخصص قسطا كبيرا من وقته للقيام برحلات إلى آسيا وأفريقيا وأميركا، وقد كرس حياته للكتابة الأدبية، وعمل في منتصف الخمسينات صحافيا لصالح هيئة الإذاعة البريطانية بي.بي.سي.
مجد أدبي وحياة قلقة
وضع نيبول أكثر من 30 كتابا مزج فيها بين الخيال والواقعية والسيرة الذاتية، فكانت روايات، ومذكرات ويوميات وانطباعات كتبت في الرحلات والأسفار. ونشر أولى رواياته “عامل التدليك المتصوف” عام 1955 ولكنها لم تحظ بنجاح في البداية ولكن في العام التالي حصل على أولى جوائزه الأدبية وهي جائزة تمنح للأدباء الشبان.
في العام 1971 حصل الكاتب الراحل على جائزة البوكر العريقة عن رواية “قل لي من أقتل”، وحصل على لقب فارس من الملكة إليزابيث عام 1989. وفي العام 2010 قال في حديث صحافي “عندما تعلمت الكتابة أصبحت سيد نفسي وأصبحت قويا جدا وهذه القوة معي حتى هذا اليوم”.
إثر حصوله على نوبل لخصت الأكاديمية السويدية معاناة نيبول مشيرة إلى أن “الفقر الثقافي والروحي في ترينيداد كان يدمي قلبه فيما باتت الهند غريبة عنه واستعصى عليه اعتناق القيم التقليدية للقوة الاستعمارية الإنكليزية السابقة”.
وبعدما كرّس أولى أعماله لجزر الأنتيل، وسّع نيبول آفاقه إلى العالم أجمع وركّز خصوصا على الأزمات التي عاشتها المستعمرات البريطانية السابقة بعد انجلاء الاستعمار. وقد دفع السعي إلى سبر أغوار النفس البشرية ومن خلالها فهم مكنونات الذات، بالكاتب والفيلسوف إلى زيارة الهند وأفريقيا والأميركيتين والبلدان المسلمة في آسيا. على أن النظرة السلبية لنيبول إلى الإسلام وكتاباته المتطرفة عنه جعلت مفكرا من طراز إدوارد سعيد يكتب نقدا شديد اللهجة لأفكاره المتطرفة.
حياتي قصيرة
في أكسفورد التقى بزوجته الأولى بات التي دعمته في مسيرته الأدبية. وبعد وفاة هذه الأخيرة في 1996، كشف نيبول عن انطباع تكوّن لديه بأنه عجّل في موتها بسبب معاشرته مومسات فيما كانت تكافح جراء إصابتها بالسرطان. وخلال السنة نفسها التي توفيت فيها بات، تزوج نيبول من الصحافية الباكستانية نظيرة ألفي.
وقد عرف الروائي بأسلوبه المباشر كما بتخليه السريع عن معارفه. وقال في أحد تصريحاته “حياتي قصيرة، لا أستطيع سماع التفاهات”. وكان يحمل بشدة على مواضيع مختلفة من فساد الطبقة السياسية الهندية إلى السلوك المنافق برأيه من الغرب مع المستعمرات السابقة. وهو لم يتوان عن تشبيه رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير بقرصان يقود ثورة اشتراكية كما كان ينتقد الأديبات اللواتي وصفهن بأنهن “وجدانيات”.
وفي مقابلة له مع صحيفة لندن إيفننغ ستاندرد، قال إن “النساء الروائيات مختلفات للغاية. عندما أقرأ جزءا من رواية في مقطع أو اثنين، أعرف ما إذا كان مؤلفه امرأة أو رجلا. أظن أن (عملهن) لا يوازي عملي”. وعزا نيبول هذا الأمر إلى الأسلوب “الوجداني” للنساء و”نظرتهن الضيقة للعالم”.
فقدان الجذور
ينبع الكثير من كتابات نيبول ممّا وصفه بـ”فقدان الجذور” ومن عدم رضاه عن الفقر الثقافي والروحي لترينيداد، واغترابه عن الهند، وأيضا من عدم قدرته على التأقلم في إنكلترا مع “القيم التقليدية لما كانت ذات يوم قوة استعمارية”.
ولطالما كانت الآثار المدمرة للاستعمار مصدر قلق كبير لعمله، ولكن في روايته شبه الذاتية الشهيرة “لغز الوصول” والتي نشرت عام 1987، يحكي نيبول عن
كاتب من أصل كاريبي يشعر بالسعادة لدى عودته إلى وطنه إنكلترا بعد سنوات طويلة من التيه.
رواية الدمى
تتحدث روايته “الدمى” المنشورة سنة 2009 عن مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم، بترجمة من فاضل جتكر عن، رالف سنغ البالغ من العمر ثمانية وأربعين عاما، لأبوين من جذور هندية، والذي نشأ في جزيرة إيزابيلا الكاريبية التابعة لبريطانيا، وحصل تعليمه الجامعي في إنكلترا.
وهي تمتح كما هو واضح من حياة نيبول نفسه، رالف سنغ خاض حياة كفاح ضد ألم الغربة الثقافية. وهو بعد نفيه من وطنه الأصلي، يلوذ بفندق عتيق الطراز في ضاحية لندنية، يتخذه مأوى له ويعكف على تسجيل مذكراته، في محاولة لفرض نوع من النظام على وجود غارق في بحر من الفوضى. مذكرات لا تلبث أن تفتح عينيه وذهنه على زحمة المفارقات الثقافية والأوهام التي وسمت طفولته وحياته اللاحقة: محاولاته الرامية إلى التكيف في المدرسة، حياته الزوجية القصيرة مع امرأة بيضاء متغطرسة. غير أن العودة إلى إيزابيلا ومن ثم الانغماس في الأجواء السياسية في دولة باتت تتمتع بحكم ذاتي، جعلت جميع أوهامه القومية تتلاشى وتتبدد –وفتحت بصيرته في آخر المطاف على لبّ المشكلة، وجعلته يتحرر من أوهامه.
وتحكي روايته “بيت السيد بيسواس" المنشورة بالقاهرة عن الهيئة العامة للكتاب سلسلة “الجوائر” سنة 2010، بترجمة صلاح صبري عن حلم كبير يراود بطلها بامتلاك بيت يلوذ به ويطمئن إلى جدرانه، بعد أن كلّت قدماه من التنقل لسنوات عديدة بين بيوت الأقارب والأصحاب، ويشتري أخيرا بيتا عتيقا متداعيا يستقر فيه مع أسرته. ومن خلال هذا العمل، وصّف نايبول الصعوبة التي كان يواجهها المهاجرون الهنود في بلدان الكاريبي في الاندماج في المجتمع مع الحفاظ على جذورهم.
أخيراً، فإن ترجمة روايته “شارع ميجل” المنشورة سنة 2007 عن الهيئة العامة للكتاب" في القاهرة سلسلة “الجوائر”، بتوقيع أحمد هلال يس، هي كما وصفها
المترجم في مقدمته “تلتقط من خلال عين الصبى/الراوي صورا لمجموعة شخوص تقطن شارع ميجل. ويقص الصبي علينا حكاية كل منهم بحماس من يقاسم الشخصيات طموحاتها وينغمس حتى أذنيه في الخيبات المتتالية التي يكابدونها، ويستسلم معهم لأحلام كاذبة. ويصحو معهم ليرتطم بصخرة الواقع، ويقدم لنا رؤية صادقة حميمة لحيوات هؤلاء الأشخاص. ويشير الكاتب في نهاية روايته إلى وشائح الصلة بين هذه الهزائم وبين المناخ الثقافي في ترينيداد إبان هذه الفترة”.
للمزيد