غياب التخطيط الاستراتيجي السياسي في العالم العربي
تمر الدول وأممها بكوارث جسام سياسيا وعسكريا واقتصاديا تعرض كيانها للخطر وتدمر بنية المجتمع وتجعله عرضة للتفكك والانهيار، وأمثلة ذلك كثيرة: فنتيجة للحرب العالمية الأولى كان يشترى رغيف الخبز مقابل بايلات من الماركات في ألمانيا، وتكرر ذلك في الحرب العالمية الثانية نتيجة سياسات الرايخ الثالث الذي لم يكتف بإعادة بناء ألمانيا وإنهاء معاهدة فرساي، بل تمادى بشن حروب استعمارية توسعية وهذا ما قامت به اليابان كذلك. لقد أدى هذا بعد انتهاء الحرب العالمية إلى تغيير المنهج الألماني والياباني واستبداله بمنهج إستراتيجي عقلاني ساعدهما على بناء أقوى اقتصاد في العالم.
إن هذا لا يتأتى بردة الفعل الوقتية التي تعالج المرض العضال بالمسكنات، وهذا ما يحزنني أن ألمسه في واقع عالمنا العربي. إننا نعيش اليوم في عين العاصفة القاتلة نتيجة ما سمي بـ«الربيع العربي» الذي اتسم بالفوضى والاقتتال، عدا الخراب الذي نشاهده في العراق وسوريا وليبيا واليمن، وكل هذا يدل على غياب رؤية إستراتيجية وتخطيط عربي مشترك يحد من هذا الدمار.
لم يدرك العرب مدى خطورة الوضع بعد أحداث 11 سبتمبر، وأن السياسة الخارجية الأميركية لم تعد كما كانت قبل تلك الهجمات. هذا الفراغ العربي وغياب المشروع الإستراتيجي السياسي والعسكري، سهّل تنفيذ المخططات الغربية التي تخطط لمستقبل هذه المنطقة من خلال مراكز أبحاثها ومؤسساتها السياسية، وقد أدى ذلك التدخل لتوسيع نفوذ دول إقليمية غير عربية مثل إيران وتركيا وتغلغلها في الشأن العربي. إن استغلال النفوذ الإيراني التركي للمنطقة نجده واضحا في كل المنطقة، فالشيعة ينظرون إلى إيران على أنها منقذتهم فيوالونها، ولنفس السبب يوالي السنة تركيا مع غياب واضح لقوى عربية تقودهم.
شرح عادل علي عبدالله، باحث أكاديمي بحريني في الشؤون الإيرانية، في كتابه «محركات السياسة الفارسية في منطقة الخليج العربي» كيف أن الحكومة الإيرانية استغلت أحداث 11 سبتمبر لمصلحتها، حيث أبدت استعدادها للتعاون مع أميركا في مطاردة تنظيم القاعدة السني، ولأول مرة منذ قيام الثورة الإيرانية عام 1979 تم إيقاف شعار «الموت لأميركا» في خطب الجمعة، ثم أعرب مجلس الشورى عن تعاطفه مع الشعب الأميركي وطالب بحملة لمكافحة الإرهاب.
إن تورط أميركا في حرب العراق وأفغانستان زاد أيضا من تقوية نفوذ إيران كونها قادرة على إعادة الاستقرار نظرا إلى تغلغل مخابراتها وميليشياتها في قلب العمل العسكري والسياسي في كلا البلدين، وبالتالي أصبحت إيران رقما يصعب تجاوزه في أي تسوية تريد أميركا القيام بها.
هنا أثبتت إيران تفوقها حتى على تركيا التي لم تثبت حسم الوضع الكردي إلى الآن، كما لم تستطع قطع التحالف بين إيران وسوريا، كما النموذج التركي الذي كان يؤمل له أن يُصدّر للدول العربية أثبت فشله.
هذا كله يثبت أن الذي يحرك إيران ليس فقط رؤية أيديولوجية عقائدية أو مصالح سياسية، بل تتحرك وفقا لرؤية إستراتيجية من خلال مراكز أبحاث. فكما ذكر علي عبدالله أن الفرق بين الدول العربية وإيران أن الثانية تتحرك إستراتيجيا منذ بداية ثورة الخميني، فقد أنتجت الكثير من النظريات أهمها “تصدير الثورة”، أما الدول العربية فتتحرك تكتيكيا أي أنها دول منفعلة وسياساتها نتيجة ردّة فعل وليس لتخطيط إستراتيجي.
فالحكومة الإيرانية أثرت على القرار الأميركي من خلال مراكز الأبحاث الأميركية. فكما ورد في الكتاب أن نفوذ الإيرانيين في تلك المراكز يصل من 30 إلى 40 بالمئة وفي المقابل لا يوجد نفوذ عربي إطلاقا.
غياب الرؤية الإستراتيجية للعرب جعلتهم يقعون في أكبر فخ إيراني وهي «فرسنة» المذهب الشيعي من مذهب عربي الجذور إلى فارسي. فإيران منذ عشية الثورة عملت على نقل المرجعية المذهبية للشيعة في العالم من النجف إلى قم في إيران. وبالتالي أصبح العرب بترديدهم أن كل من هو شيعي عربي «فارسي مجوسي» أو «رافضي» فإنهم يزجون الشيعة العرب زجا في أحضان إيران، وكأنهم بذلك يحققون أحلام الحكومة الإيرانية.
وكما قلت سلفا أن سياسة الدول العربية هي سياسة انفعالية فقد ظهرت الكثير من الفتاوى ضد الشيعة للحد من النفوذ الإيراني، ولكنها في الواقع زادت من الهيمنة الإيرانية. هذه الفتاوى جعلت من إيران المنقذ للشيعة، فالحكومة الإيرانية تستغل استضعاف الشيعة وقد نشأت تنظيمات وميليشيات في الدول العربية لتنفيذ مآربها السياسية كما حدث من خلال حزب الله في لبنان، والبلبلة التي تحدثها في دول الخليج مثل استغلال وضع الشيعة في البحرين، وما نشاهده في العراق بتدخل إيران بحجة الحفاظ على مقدسات الشيعة الذي هو بالأساس مجرد بسط السيطرة الإيرانية في المنطقة.
ونتيجة لهذا النفوذ الإيراني في العراق وسوريا ولأسباب طائفية ظهرت داعش وغيرها من التنظيمات الإسلامية، وأصبحت كما هو واضح في المشهد العراقي كأنها جبهة سنية خصوصا بعد أن انضمت إليها العشائر والبعثيين نتيجة التهميش والسياسة الطائفية لحكومة نوري المالكي. أيضا نجد هنا السياسة مجرد ردة فعل وانفعالية.
إن غياب الدراسة الإستراتيجية تجعل النخب العربية لا تفهم طبقات المجتمع الإيراني، كما تفهم الحكومة الإيرانية كل صغيرة وكبيرة في المجتمعات العربية. إن النفوذ الإيراني لم يكتف بالانتشار السياسي والعسكري، بل أيضا من خلال السيطرة الإعلامية الناطقة عبر القنوات بالعربية مثل قنوات العالم والمنار واللولو والكوثر وغيرها التي تهدف إلى نشر سياسة الحكومة الإيرانية في العالم العربي، وفي المقابل لا توجد قناة عربية واحدة ناطقة بالفارسية تخدم الأهداف العربية.
عدم المعرفة بالمجتمع الإيراني وغياب التخطيط لتسخير الطاقة الإعلامية لخدمة المصالح العربية، يثبت حاجة العرب إلى مراكز أبحاث تعمل على دراسة هذه السياسات. ومن أبرز المراكز الإستراتيجية التي يمكن أن يعوّل عليها في المنطقة مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية في أبو ظبي، الذي يرأسه الدكتور جمال السويدي، ولكن الدول العربية تحتاج إلى عشرات المراكز بهذا المستوى حتى يكون العرب قادة أنفسهم وليسوا مجرد دمى يخطط لهم من الخارج.
إن استمرار السياسة العربية بهذا الشكل الانفعالي دون رؤية إستراتيجية ودراسة ميدانية للأوضاع الراهنة لا يجعلها تتحرك بطريقة مدروسة تواجه لعبة أعدائها السياسية، وبالتالي تصبح فريسة سهلة لأي أجندة طامحة لتقسيم هذه المنطقة ونهب ثرواتها. فلابد من حل علمي وعقلاني للأوضاع الراهنة لأن أحداث المنطقة أصبحت أكثر تعقيدا والتحديات أكثر شراسة، فلن تنفع سياسة ردة الفعل بعد الآن، فحتمية وجود تخطيط إستراتيجي من خلال مراكز أبحاث في الداخل والخارج أمر ضروري لتسخير القوى الصلبة والناعمة على أساس علمي بهدف خدمة المصالح العربية.
أكاديمية وإعلامية سعودية