غموض يلف مصير رئيس المحكمة الاتحادية العراقية العليا

بغداد – تشهد المحكمة الاتحادية العليا أعلى سلطة قضائية في العراق، أزمة غير مسبوقة، في ظل تقارير متضاربة حول استقالة رئيسها القاضي جاسم محمد عبود العميري، وتصاعد الخلافات الداخلية التي تنذر بتعقيدات دستورية وقضائية جديدة تضاف إلى المشهد السياسي العراقي المتقلب.
تأتي هذه التطورات في وقت حساس للغاية، حيث تُنذر بتفاقم أزمات البلاد وسط صراعات إقليمية وضغوط داخلية متزايدة.
وكشف مصدر مسؤول في المحكمة الاتحادية العليا بالعراق، اليوم الاثنين، حقيقة الأنباء المتداولة حول تقديم رئيس المحكمة جاسم العميري استقالته من منصبه.
وأوضح المصدر لوكالة شفق نيوز الكردية العراقية أن "الأنباء التي تحدثت عن تقديم رئيس المحكمة الاتحادية العليا القاضي جاسم العميري استقالته من منصبه غير صحيحة، فحتى الآن لا يوجد قرار رسمي بذلك وفي حال تم ذلك سيعلن بشكل رسمي".
كما بين المصدر أن "المحكمة الاتحادية العليا لم تشهد أي استقالة جديدة غير التسعة قضاة الذين طلبوا الإحالة إلى التقاعد قبل أيام".
وفي المقابل، نقلت شبكة "رووداو" الكردية العراقية عن عضو آخر في المحكمة الاتحادية العليا، رفض الكشف عن اسمه، أن رئيس المحكمة قدّم اليوم رسميا طلبا لإحالته على التقاعد، وليس استقالة كما تداولت بعض وسائل الإعلام.
وهذه التقارير المتضاربة حول مصير العميري، الذي ولد عام 1964 وتم تعيينه رئيسًا للمحكمة عام 2021، تُشير إلى حجم التوتر والغموض الذي يلف هذه المؤسسة القضائية الحيوية.
وكانت تقارير إعلامية قد ذكرت في وقت سابق أن العميري قدم استقالته بعد خلافات مع أعضاء في المحكمة، وأن قبول استقالته قد يمهد لتغييرات عميقة في الجهاز القضائي العراقي.
ورفض رئيس الجمهورية العراقية عبداللطيف جمال رشيد، الأحد، طلبا كان تقدم به العميري، ويتضمن دعوة ائتلاف "إدارة الدولة" الذي يضم جميع القوى السياسية المشاركة في الحكومة إلى حل "أزمة القضاء" الناجمة عن النزاع المتفاقم بين المحكمة الاتحادية ومحكمة التمييز الاتحادية.
والرفض الثاني من نوعه في غضون أيام قليلة، بعد رفض مماثل صدر عن رئيس البرلمان محمود المشهداني لعقد اجتماع تحضره الرئاسات وجميع أعضاء ائتلاف إدارة الدولة لفض النزاع القضائي.
وتأتي هذه التطورات في سياق أزمة غير مسبوقة داخل المحكمة الاتحادية العليا نفسها، تمثلت في استقالات جماعية لتسعة من أعضائها الأسبوع الماضي، بينهم ستة أعضاء رئيسيين وثلاثة احتياط، وذلك قبيل ساعات من انعقاد جلسة حاسمة كانت مقررة للبت في ملفين شائكين: ملف قطع رواتب موظفي إقليم كردستان من قبل الحكومة الاتحادية، وملف خور عبدالله الحدودي الحساس.
وراوحت ترجيحات الاستقالة بين الاحتجاج على التدخلات السياسية، وتدخلات محكمة التمييز الاتحادية التي يرأسها رئيس مجلس القضاء الأعلى فائق زيدان.
والمحكمة الاتحادية العليا، التي أنشئت في عام 2005، ومقرها بغداد، وتتألف من رئيس وثمانية أعضاء، تختص بالفصل في النزاعات الدستورية وتعتبر قراراتها باتّة وملزمة للسلطات كافة.
ورغم أنها يفترض أن تكون مستقلة وفق الدستور العراقي، إلا أن الأحزاب النافذة تناوبت على طرح أسماء قضاة يمثلونها، حيث لا يوجد قانون يمنع عنها التأثيرات السياسية، ما يدفع سياسيين بين فترة وأخرى إلى المطالبة بتشريع قانونها الخاص.
وتأتي هذه التطورات وسط تصاعد الخلافات السياسية والقانونية بين العراق والكويت بشأن ملف خور عبدالله، وما ترتب عليه من تداعيات إقليمية وحكومية، ما ينذر بأزمة دستورية وقضائية جديدة داخل مؤسسات الدولة العراقية.
وقد قدم كل من رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء العراقيين طعنين منفصلين إلى المحكمة الاتحادية العليا، طالبا فيهما بالعدول عن قرارها القاضي ببطلان قانون تصديق اتفاقية خور عبدالله مع الكويت، مستندين في دفوعهما إلى الدستور العراقي واتفاقية فيينا لعام 1966، وبحسب ما اوردته وكالة الانباء الكويتية "كونا" منتصف أبريل الماضي.
واعتبر الطعنان أن الاتفاقية تتعلق بتنظيم الملاحة وليس بترسيم الحدود، وتشكل جزءاً من التزامات العراق الدولية التي لا يجوز التراجع عنها.
وكانت المحكمة الاتحادية العليا قد أقرت في الرابع من سبتمبر 2023 بعدم دستورية القانون 42 لسنة 2013 الخاص بتصديق الاتفاقية، لمخالفة أحكام المادة (61 / رابعاً) من الدستور التي نصت على ضرورة تصديق المعاهدات بأغلبية ثلثي أعضاء مجلس النواب.
في سياق متصل، أكد رئيس المحكمة الاتحادية العليا، القاضي جاسم محمد عبود العميري، خلال لقائه رئيس الجمهورية في منتصف يونيو، على ضرورة إيجاد حل نهائي لصرف المستحقات المالية لموظفي إقليم كردستان. غير أن أزمة الاستقالات داخل المحكمة قد يعيق ذلك، بحسب مراقبين وسياسيين.
وكانت وزيرة المالية، طيف سامي، قد وجهت نهاية مايو الماضي، كتابا بوقف تمويل رواتب موظفي إقليم كردستان، على خلفية تجاوز حصته في الموازنة، وهو ملف معلق منذ سنوات بين الشد والجذب مع الحكومة الاتحادية، تحولت فيه رواتب الموظفين إلى "سلف" تقدم للإقليم بعد توقف تصدير النفط عبر ميناء جيهان التركي.
تُظهر هذه الأزمة التي تضرب المحكمة الاتحادية العليا، والتي تُعد الركيزة الأساسية للنظام القضائي والدستوري في العراق، مدى الهشاشة التي تعتري مؤسسات الدولة في ظل الصراعات السياسية المتواصلة.
وغياب الاستقرار القضائي، والشكوك حول استقلالية أهم هيئة قضائية، لا يؤثر فقط على قضايا مصيرية كرواتب الموظفين والملفات الحدودية، بل يهدد بتقويض الثقة في النظام القانوني بأكمله، ويفتح الباب أمام تعقيدات دستورية عميقة قد تزيد من اضطراب المشهد السياسي العراقي المتقلب أصلاً. ويبقى مصير المحكمة واستقلاليتها محط ترقب، فقدرتها على تجاوز هذه الأزمة ستحدد إلى حد كبير مستقبل الاستقرار القانوني والسياسي للبلاد.