غليان الأسعار يقصي الطبقة الوسطى من سوق العقارات التونسية

شركات التطوير تحمّل الحكومة والمضاربين مسؤولية اتساع الأزمات، وسياسات الدولة عجزت عن معالجة خلل برامج الإسكان طيلة عقدين.
الجمعة 2019/03/01
حلم التطوير يتحول إلى كابوس

تكشف أزمة الإسكان في تونس عن عجز مزمن للدولة في نفض غبار الركود عن قطاع العقارات، الذي يعاني من تبعات فشل البرامج الحكومية منذ عقدين، ما أدى إلى إقصاء الطبقة الوسطى من قاعدة الطلب نتيجة غليان الأسعار.

تونس - تظهر المؤشرات أن أسعار العقارات في تونس تضاعفت مرتين في السنوات الثماني الماضية، ما أدى بالمواطنين إلى صرف النظر نهائيا، ولاسيما الطبقة الوسطى، عن الدخول في هذه المغامرة.

ويرى محللون أن هذا الاتجاه يغذي المخاطر المتعلقة بحدوث فقاعة عقارية قد تأتي بنتائج وخيمة على البلاد خلال السنوات القادمة.

ومعظم المواد الأولية التي تدخل في عمليات البناء والتشييد مستوردة من الخارج وهذا يضاعف التكاليف التشغيلية لشركات التطوير العقاري ويجعلها تواجه مشكلات حقيقية بالفعل.

وعند تتبع مؤشر الأسعار السوق المحلية، يلاحظ أن سعر طن الحديد زاد بمقدار 16 بالمئة خلال العامين الماضيين ليبلغ نحو 1.1 ألف دينار (361 دولارا) دون احتساب القيمة المضافة، في حين زاد سعر طن الإسمنت بنحو 20 بالمئة ليبلغ 160 دينارا (52.6 دولار).

فهمي شعبان: لا يمكن بناء مساكن اجتماعية على أراض يباع المتر المربع منها بألفي دينار
فهمي شعبان: لا يمكن بناء مساكن اجتماعية على أراض يباع المتر المربع منها بألفي دينار

وأرجعت وزارة التجارة ذلك إلى تدهور قيمة الدينار أمام سلة العملات الأجنبية وتأثير عمليات التبادل التجاري بالعملة الصعبة على السوق التونسية، والتي تشمل توريد الألمنيوم والخشب وغيرهما من المواد التي تدخل في البناء.

لكن المشكلة الأكبر ستظهر في يونيو المقبل حينما يتم رفع الدعم نهائيا عن الإسمنت، وفق ميزانية 2019، ما سيترتب عليه ارتفاع تكاليف صناعة الطوب وغيره من المواد التي تستخدم بكثافة في هذه المادة.

ويقود مصنع الفولاذ الحكومي، في مدينة منزل بورقيبة التابعة لولاية بنزرت، إنتاج الحديد ويزود السوق المحلية مع 5 وحدات أخرى بنحو نصف مليون طن سنويا، غير أن الشركة تواجه أزمة ارتفاع التكاليف التشغيلية وتقلص الطلب المحلي، ما جعل إنتاجها يتراجع بشكل غير مسبوق.

كما تراكمت مشكلات مصانع الإسمنت البالغ عددها 8، منها 3 مملوكة للدولة، وهي توفر سنويا قرابة 10 ملايين طن وكانت تقوم بتصدير قرابة خمس الإنتاج إلى الأسواق الخارجية بما فيها السوقان الليبية والجزائرية.

وانعكست دوامة تضخم الأسعار على الإيجارات أيضا والتي ارتفعت بشكل لا يطاق لتجد معظم الطبقات الاجتماعية نفسها في متاهة لا يمكن لأحد أن يتنبأ متى ستنتهي.

وتنامت حالة الإحباط لدى المواطنين، ويؤكد زوجان وهما موظفان لوكالة الأنباء التونسية الرسمية أن حلمهما بامتلاك منزل بات صعب المنال بسبب “العرض الباهظ جدا”، رغم أن كل واحد منهما يتقاضى شهريا أكثر من ألف دينار (330 دولارا).

ويقول أحدهما “عندما تباع شقق صغيرة بأكثر من 200 ألف دينار (65 ألف دولار) يمكننا القول إنّ حلم المواطن ذي الدخل المتوسط بشراء مسكن لم يعد ممكنا”.

ويتابع الآخر قائلا بنبرة مريرة “لقد وجدنا أنفسنا مجبرين على التخلي عن عامل القرب وأرجو ألا نضحي بأشياء أخرى أو نجبر على التوجه الى إيجار منزل”.

واضطر بعض الأزواج إلى التخلي عن فكرة امتلاك منزل رغم أن مجموع مداخيل كل زوجين شهريا يصل إلى نحو 3.8 ألف دينار (1.25 ألف دولار).

وزارة التجارة أرجعت ارتفاع الأسعار إلى تدهور الدينار وتكاليف استيراد المواد الأولية بالعملة الصعبة
وزارة التجارة أرجعت ارتفاع الأسعار إلى تدهور الدينار وتكاليف استيراد المواد الأولية بالعملة الصعبة

وعند لجوئهما إلى برنامج المسكن الأوّل، لشراء شقة وجدا نفسيهما مجبرين على دفع قسط شهري بقيمة تقدر بحوالي 542 دولارا عن قرض بنكي، وهو ما اعتبراه فوق طاقتهما المالية بالنظر إلى بقية التكاليف والأعباء المالية.

واعتبر فهمي شعبان رئيس الغرفة النّقابية الوطنية للباعثين العقاريين، أنه في ظل ما يحصل اليوم لا يمكن الحديث عن طبقة وسطى كانت في وقت ما هي المحرك الأساسي للقطاع.

ونسبت وكالة الأنباء التونسية إلى شعبان قوله إن “القدرة الشرائية لهذه الطبقة، التي كانت تشكل زبائننا الرئيسيين، قد تدهورت بشكل كبير، إلى درجة أنّه لم تعد لديها القدرة على الادخار أو حتى التّفكير في إتمام بقية التزاماتها”.

وأضاف “قبل 2011، كان عملنا يستند إلى تخطيط للطلب القوي على شراء المساكن والعقارات، لكن اليوم، هذا الطلب غير متوفر، بسبب الزيادة الحادة في الأسعار”.

ويرى شعبان أن المطورين العقاريين غير مسؤولين عن التهاب الأسعار بسبب السياق العام بعد الثورة الذي تميز بالارتفاع الحادّ في أسعار العقارات.

وقال “لا يمكننا بناء مساكن اجتماعية أو اقتصادية على أراض تم شراؤها بألفي دينار للمتر المربع الواحد. وهو ما جعل العديد من المطورين يفضلون، اليوم، تشييد العقارات الفاخرة، لأن لها دوما زبائنها وتسمح بتحقيق هامش من الأرباح”.

وتلقي الغرفة بجزء من الأزمة على المضاربين في سوق العقارات الذين يشجعون البناءات التجارية، علاوة على ندرة وغلاء الأراضي الصالحة للبناء بسبب النقص المسجل للوكالة العقارية للسكنى الحكومية خاصة في ولايات تونس وبن عروس وأريانة ومنوبة وسوسة وصفاقس.

وأثار رئيس الغرفة مسألة زيادة تكاليف اليد العاملة والمواد الأولية بسبب تدهور قيمة الدينار وإقرار ضرائب جديدة، إضافة إلى الارتفاع المتتالي لأسعار الوقود والكهرباء.

وتؤكد بيانات المعهد الوطني الإحصاء أن حجم المبيعات العقارية تراجع بنحو 9.1 بالمئة خلال الربع الثالث من العام الماضي، مقارنة بنفس الفترة من 2017، ما يعكس بوضوح حجم الأزمة.

نجيب السنوسي: غياب آليات معالجة أزمة الإسكان أدى إلى تفاقم المشكلات منذ عام 2000
نجيب السنوسي: غياب آليات معالجة أزمة الإسكان أدى إلى تفاقم المشكلات منذ عام 2000

ويعود السبب إلى انخفاض مبيعات الشقق بنسبة 21.1 بالمئة، والمنازل بنسبة 8.1 بالمئة، والأراضي المعدة للبناء بنسبة 6.3 بالمئة.

ووجه شعبان انتقاداته إلى السلطات بشأن غياب إستراتيجية عمرانية على المدى البعيد، تغطي العقود الخمسة المقبلة، والتي يمكن أن توفر للمطورين رؤية أكثر وضوحا حول المشاريع المستقبلية.

وقال إن “كل هذه العوامل مجتمعة، هي مصدر الارتفاع الخطير في أسعار الممتلكات العقارية التي تضاعفت بين 2010 و2019”.

وعند تتبع مسار نشاط قطاع العقارات خلال السنوات التسع الأخيرة، فإن المطورين العقاريين شيدوا في عام 2010 قرابة 16 ألف مسكن، لكن في 2018 لم تتجاوز 8 آلاف مسكن وهذا الرقم سيتراجع على الأرجح بنهاية العام الحالي.

ويقول المدير العام للإسكان بوزارة التجهيز والإسكان والتهيئة الترابية نجيب السنوسي إن آليات التدخل في القطاع العقاري والإسكان الاجتماعي لم تقيم وتراجع في الوقت المناسب، وهو ما جعل المشكلات تطفو على السطح منذ عام 2000.

وتساهم بشكل مباشر في منظومة القطاع كل من الشركة الوطنية العقارية للبلاد التونسية والوكالة العقارية للسكنى وشركة النهوض بالمساكن الاجتماعية ووكالة التهذيب والتجديد العمراني وبنك الإسكان.

ويؤكد السنوسي أن المشكلات تفاقمت بسبب أزمة الرهن العقاري العالمية بين عامي 2007 و2008، والتي تسببت في ارتفاع تكاليف المواد الأولية على المستوى العالمي، مما أثر على مستوى أسعار العقارات في تونس بشكل كبير.

11