غسان أبولبن يستثمر اللون ليقبض على "لحظات سائلة"

استكشاف للوجود الزائل والحالات العابرة في الحياة.
الثلاثاء 2023/11/21
الحياة لحظات عابرة

بضربات فرشاة حادة ولمسات جريئة، يحاول الأردني غسان أبولبن القبض على اللحظات العابرة وعلى الوجود الزائل، مقدما قراءة بصرية للمشاعر الإنسانية المعقدة ومثيرا ردود أفعال عميقة في نفس المتلقي.

عمان - يستكشف التشكيلي الأردني غسان أبولبن، في معرضه الفردي الجديد المقام على غاليري دار المشرق، تحت عنوان “لحظات سائلة”، المعنى الكامن وراء السيولة في الحياة.

يستمر المعرض حتى السابع من ديسمبر المقبل، ويقول بيان الغاليري إن الأعمال المعروضة فيه “تستكشف طبيعة الوجود الزائل، وتصوّر جوهر الحالات العابرة في الحياة. هي اللحظات الهاربة في حياة الإنسان مشغولة بتقنيات من منظور خاصّ، وكلها تتمحور حول موضوع اللحظات السائلة”.

ويوضح الفنان الأردني عبر لوحاته الجوانب المعقدة للمشاعر الإنسانية، كما أن هذه السيولة لا تخص ما يُلمَس من مادة، بل تتجاوزه إلى ما لا يمكن لمسه والتعامل معه كمادة، على غرار الحب والقلق والغضب والفرح والعزلة.

تظهر هذه الكيانات السائلة في أعمال أبولبن المولود عام 1964، عبر ضربات فرشاة حادة، ولمسات جريئة بالسكّين، وتؤكد أن ما يتعرض لحالة السيولة تلك لا يمكن إعادته إلى هيئته الأولى. إنها تشبه فعل التكسير والتحطيم والتهشيم. كما يمكن لكل تلك الزوايا اللونية والتعرجات القادمة من التكتل اللوني على الحواف أن تعطي الناظر إحساسا بالتهديد والقلق، وتنشئ في داخله ردود فعل نفسية عميقة.

شخصيات يقدمها الفنان بدقّة ورقّة، لتبدو في مجملها كأنها تقف على حافة السقوط، أو تعوم في مسطحات لونية

وتتخذ أعمال غسان أبولبن، الذي يدرّس الرسم والتصوير في الجامعة الأردنية، من الألوان القوية سمة لها، فتظهر التشكيلات على سطح اللوحة كأنها تنبض بالحياة، وفي الوقت ذاته تدفع المشاهد إلى التوقف والتأمل وإعادة النظر في تصوره المسبق للعالم والوجود.

وتتحرك اللوحة عند أبولبن بين منطقة التعبير والتجريد، وهي تتحرر من القيود الأكاديمية ومن الأسلوب الصارم، لتنحو باتجاه استثمار اللون كنقطة جذب بصرية. وبالتوازي، فإن الضربات الحادة على السطح تمنحها حركة وملمسا نافرا، وتمتد إلى تحوير الشخصيات المرئية، أو تجعلها مجرد كتل لونية تُظهر الملامح العامة للجسد ولا تعتني بالتفاصيل، بل توجه عنايتها للحالة النفسية التي تعيشها تلك الشخصية، من قلق أو خوف أو تساؤل.

وتظهر الشخوص في لوحات أبولبن بصيغ نفسية مركبة، ضمن مشاهد عابرة للزمان والمكان، مغلفة بالضباب والغموض، ومصنوعة عبر سيلان لوني من خطوط أفقية دقيقة، كأن هناك ماء ينسكب فوق اللون، فيتحلل هذا اللون ويصبح خطوطا تنساب مع مجرى الماء، ثم تتنوع درجاته اللونية بين الغامق والفاتح، بحسب كمية الماء المنسكبة فوقه.

ويقدم الفنان الأردني شخصيات لوحاته بدقّة ورقّة في آن، لتبدو في مجملها كأنها تقف على حافة السقوط، أو تعوم في مسطحات لونية تتدلى منها خطوط سائلة، وتبدو كأنها تراكمت عبر طبقات، تشفّ مرة وتتكاثف في أخرى، ليصبح لها ثقل مادي وعاطفي، بل لعلها تلغي المسافة بين الاثنتين، فلا يعود هناك فرق بينهما.

ويرسم الفنان شخوصه في وضعية الوقوف، ولا يبدو أنها تقف على أرض صلبة، بل نراها في حالة من التفرد والتكدس والهلامية والضبابية، تنغمس في معاناتها الشخصية وتحاول أن تندمج في العالم المحيط بها، كما تحاول أن توصل ما تشعر به في تلك اللحظة التي تم تصويرها بها، وتجميد هيئتها خلالها.

 لوحات خالية من الشخوص
لوحات خالية من الشخوص

ويقدم أبولبن لوحات خالية من الشخوص، جاءت قريبة من التجريد اللوني، معتمدا في ذلك على الكتل اللونية الواحدة، فقد يتكتل الأسود على شكل شجرة أو بيت، وقد تتجاور تلك الكتلة مع كتلة أخرى من الأبيض أو الأزرق، تبدو على شكل خطوط أو بقع مختلفة الحجوم. وقد تتداخل تلك الكتل التجريدية بشكل أساسي غير محدد الملامح يتوسط واجهة اللوحة.

وتمثل أعماله مقاربة جمالية بصرية تعمد إلى التجريب اللوني، وتحرص على التنوع في الأشكال التي تنساب على سطح اللوحة، وهي في كل ذلك تحافظ على التوازن بين الكتل، كما تتعانق خطوطها الرشيقة وتتحاور في تجاورات لونية تشبه الإيقاع الموسيقي المنسجم. ولد الفنان غسان أبولبن في بيت لحم سنة 1964، ثم أجبرت عائلته على الانتقال للعيش في عمَان بعد هزيمة يونيو سنة 1967، حيث نشأ وترعرع، وتلقى تعليمه.

بدأ شغفه بالفن وممارسته من خلال نسخ صور كبار الفنانين المرسومة على علب الشوكولاتة، ورسمه صورا شخصية لأصدقائه وأساتذته في المدرسة. وبعد إنهائه المرحلة الثانوية، توجه لدراسة الرسم والتصوير في جامعة اليرموك في الأردن، حيث تعرف على تقنيات الرسم وتاريخ الفن، وعمل على دراسة التشريح والتكوين، كما انكبّ على البحث والتجريب المتواصل لصقل موهبته الفنية.

اللوحة عند أبولبن تتحرر من القيود الأكاديمية ومن الأسلوب الصارم، لتنحو باتجاه استثمار اللون كنقطة جذب بصرية

في بدايات رحلته مع الفن، مالت معالجته الفنية إلى التأثر بالمشاهير من الفنانين وإلى الاعتماد على النظام الخطي، والتزم بالتعاليم الأكاديمية، ولكنه عمد في مراحله الفنية المتقدمة إلى تحرير لوحاته من القواعد الأكاديمية منتهجا أسلوب التعبيريين، حيث عرف بألوانه القوية وضرباته الحادة المدروسة على السطح التصويري، وتميز بطريقة خلطه للألوان القوية وتحويره للشخوص المرئية، حيث تعتمد تقنيته اللونية على التحاور ما بين الشخوص في العمل الفني وما بين المساحات التي تحيط بها وتتداخل معها.

ولعل أكثر ما يلهم الفنان أبولبن هو الموسيقى، وهو ما يظهر جليا في تكويناته المتناغمة التي تصف مشاهد غامضة من الإيقاعات الموسيقية. كما برع الفنان التشكيلي، الذي مُنح الجائزة الثانية في مسابقة مئوية لوركا من معهد سيرفانتس بعمّان عام 1988، في رسم البورتريه واستخدم في إنجاز لوحاته الألوان المائية والشمعية وأقلام الرصاص، وقدم وفق ذلك لوحات تصور وجوه شخصيات أدبية وفنية وفكرية.

وكان الفنان في كل لوحة يستخدم أسلوبا محدّدا وبسيطا يعبّر عن روح الشخصية ويستمد ثيمته من جوها العام أو سياق حياتها، فقد يرسم شخصية ما أثناء جلوسها في المقهى، أو قراءتها لكتاب، أو أثناء تحدثها. وأحيانا يفضّل الرسم بلون واحد، كرسمه وجه الشاعر عدنان الصايغ، وغالبًا ما يكون ذلك بقلم الرصاص، وأحيانا أخرى يُدخل لونين متجاورين في الرسم، كما في البورتريه الذي رسمه للشاعر طاهر رياض. ولعل ذلك الاقتصاد اللوني كان هدفا للفنان، إذ أراد من خلاله إبراز دور الظل والضوء في اللوحة، والتأكيد على الحالة الداخلية للشخصية.

يذكر أن غسان أبولبن يعمل حاليا مُحاضرا متفرغا في الجامعة الأردنية حيث يدرّس الرسم والتصوير، كما أنه يُدرّس الفن في مرسمه الخاص، حيث يمارس الرسم أيضا كفنان متفرغ.

14