عُمرة هنية وعباس وما لا تريد السعودية التورط فيه

إذا اكتشفت الجزائر أنها تعرضت للخداع لأنها كانت راغبة فيه، فليس لدى السعودية ما يبرر لها أن تنخدع لا بهنية ولا بعباس ولا بكل من يتوسط المسافة بينهما.
الجمعة 2023/04/28
قادة أوهام ساقوا قضيتهم من هزيمة إلى هزيمة

اللذان لم تُصلح العمرة في رمضان بينهما، كيف يمكن أن يُصلح بينهما بشر؟

لهذا السبب لم تكلف السعودية نفسها في أن تصلح بين إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس وبين الرئيس الفلسطيني محمود عباس، إذ ذهب إليها كلٌّ منهما لغرض، وحصل عليه. ولكن من دون أن يقال لهما “تصالحوا، أصلح الله اعوجاجكم”، لأن الواجب كان يقتضي القول: “تقبّل من أعمالكم ما لم تفعلوه بعد”.

الرياض أخذت علما، منذ وقت طويل، بأن لكل من هذين الزعيمين أسبابه الجديرة بالاعتبار في استنكار الطرف الآخر. وإنهما إذ يأتيان إلى بيت الله الحرام، فليس لكي يغفر الله ما للمرء من أخيه، فيشرح صدره على تسوية عاقلة، وإنما لكي يتيقن كل منهما أنه على حق، وأخاه على باطل.

هنية كثيرا ما تفاءل بوعود عباس، فنكثها واحدا بعد الآخر. حتى لم يبق في قوس الصبر منزع. وكلما نشبت أزمة، ودعا الداعي إلى “وحدة الصف الفلسطيني” تقدم الرئيس عباس بوعد جديد، إنما لكي يخلّ به، لاسيما إذا كانت المسألة تتعلق بإجراء انتخابات. فالرجل، حتى وإن كان في حالة موت سياسي، ومشاكله الصحية تلزمه الفراش، فلا يصحو إلا عندما يأتي موعد أخذ الدواء، إلا أنه لا يريد التخلي عن الرئاسة طوعا، كما أنه لا يريد التخلي عنها بانتخابات، ولا حتى لو تم إخراجه منها بغير ذلك. وهو يؤمن بأن الذي خلقه، لم يخلق غيره، وإن النساء الفلسطينيات عقرن من بعد ولادته. ولئن ظلت رهاناته تخوض في وحل الفشل، فلا تواصلت مفاوضات، ولا تحققت التزامات من جانب إسرائيل، فإنه باق على أمل بأن يُفتتح للمفاوضات “أفق”.

◙ أصبحت المحاولات التي تبذلها مصر من أجل التقريب بين الطرفين صنعة معروفة البدايات والنهايات. حتى لم تعد القاهرة تأمل بأكثر من أن ترسل مبعوثين إلى إسرائيل وغزة لضبط النفس

وكلما مر عام، صارت أوضاع الفلسطينيين أسوأ فأسوأ، حتى أصبحت قطعان المستوطنين لا تتردد في السعي لتوسيع نفوذها على الحكومة الإسرائيلية، كما توسع سيطرتها على المزيد من الأراضي الفلسطينية. فلم يبق أي معنى لانتظار “حل الدولتين”، إلا القليل من غبار الوهم الذي ما يزال يتعلق بـ”مقررات الشرعية الدولية”.

فأسقط في يد هنية، ويئس من كل المحاولات التي دعت الرئيس عباس إلى أن يأتي إلى “كلمة سواء”. لأن أعوج أعوج مهما طال به الزمن.

وعباس كثيرا ما تفاءل بوعود هنية، فنكثها واحدا بعد الآخر. فالرجل وإن كان لا يؤمن بحل الدولتين مع إسرائيل، فإنه يؤمن بحل الدولتين مع الضفة الغربية. وهو ما جعل “الانقسام الفلسطيني” أبعد من مجرد انقسام سياسي. إذ أصبح “نمط حياة” لشعبين مختلفين، يعيش كل منهما على وسائل مختلفة، ولدى كل منهما قضية لا تشبه قضية الشعب الآخر. وكلما مر المزيد من الوقت، كلما أصبح لدولة هنية ما يبرر بقاءها مستقلة عن دولة عباس. التعقيدات الإدارية تزداد. والأعباء تثقل، حتى لأصبح الانقسام نوعا من راحة بال للطرفين، وكل حديث لرأب الصدع بين الدولتين بات مجرد صداع. وهما، كما تراهما، لا ينشغلان به إلا عندما يتوفر “دافع” ما، يدفع لهما ثمن اللقاء، وليس لأن الصدع ضرر جسيم بحد ذاته.

ويريد عباس من هنية أن يؤمن بأوهامه، من قبيل أن المفاوضات سوف تسفر عن حل. وهذه، لم تثبت الوقائع وجاري الأيام سوى أنها نكتة سمجة. وهي تشبه ذلك الخال الذي قال لأبناء أخته إنه كان على وشك أن يشتري لهم تفاحا وبرتقالا وأعنابا، فلما قالت له أخته: لماذا تتعب نفسك؟ قال: دعيهم يأكلون!

كما يريد هنية من عباس أن يؤمن بأوهامه، من قبيل أن صواريخ حماس والجهاد الإسلامي سوف تقتلع إسرائيل من جذورها. سوى أن طائرات ومدافع إسرائيل هي التي تقتلع حياة الناس من منازلهم في غزة، وتشدد عليهم حصار الماء والكهرباء، وتغلق عليهم أبواب أكبر سجن على سطح الكرة الأرضية. وهذا هيّن لو كانت وراءه إستراتيجية وطنية ما، إلا أنه سجن تُقضى فيه السنوات كمحكومية ابتلاء لا كمحكومية نضال.

وهناك في الوسط مجموعة تدعى “الأمناء العامون” الذين يحاولون التوسط بين الأوهام، فلا يجدون مخرجا من أسوارها المغلقة. فهم كلما صدقوا بما يتعهد به واحد من الطرفين، كلما ظهر أنه يخادع، لكي يحرج الطرف الآخر، لا لكي يمضي في طريق مشترك. ولكنهم، على سبيل الأمانة، حققوا الكثير من “النجاحات” و”الانتصارات” في إصدار البيانات التي تؤكد “المواقف المبدئية الثابتة”. فلا رأى الناس من المواقف الثابتة، إلا المواقف التي لا تقف على أساس. إنهم “خال” آخر يعدُ أبناء أخته بالتفاح والأعناب، ليأكل الأولاد البيانات.

◙ هنية كثيرا ما تفاءل بوعود عباس فنكثها حتى لم يبق في قوس الصبر منزع وكلما نشبت أزمة ودعا الداعي إلى وحدة الصف تقدم عباس بوعد جديد إنما لكي يخلّ به

وأصبحت المحاولات التي تبذلها مصر من أجل التقريب بين الطرفين صنعة معروفة البدايات والنهايات. حتى لم تعد القاهرة تأمل بأكثر من أن ترسل مبعوثين إلى إسرائيل وغزة لضبط النفس. كما ترسل مبعوثين، إذا اقتضت الضرورة، إلى رام الله، لأخذ “العلم بالشيء”، لا لكي تنتظر منها ما تعمله، لأنها عاطلة عن العمل من الأساس.

وعلى هذا الأساس لم تعد السعودية تنتظر شيئا منهم. تستمع إليهم، ولا يهمها ما يقولون. لأنه لا يوجد ما يوحي بأن قولهم جدير بالاعتبار. يكفي أنها تستقبلهم بالترحاب. وتعطيهم ما يطلبون. وتيّسر لهم العمرة. وهي ترى أنه إذا كان حج بيت الله لا يغنيهم عما يفعلون، فإن أحدا لن يقدر على تصويبه.

وللسعودية مشاغل تشغلها. ولا وقت لديها للتورط في ضجيج الأوهام وتناحراتها. وهي ربما تنظر إلى مبادرة قمة الجزائر لرأب الصدع الفلسطيني لترى إلى ماذا توصلت. فإذا اكتشفت الجزائر أنها تعرضت للخداع لأنها كانت راغبة فيه، فليس لدى السعودية ما يبرر لها أن تنخدع لا بهنية ولا بعباس، ولا بكل من يتوسط المسافة بينهما.

إنهم قادة أوهام. ساقوا قضيتهم من هزيمة إلى هزيمة، وشعبهم من خسران إلى خسران، حتى لم يعد من الممكن حملهم على محمل الجد. فإذا جاؤوا إلى العمرة، فقد يكفي أنهم يستغفرون الله عن ذنوبهم. ولكن المعضلة هي أن المرء يستغفر عن ذنب يقر به، فيُقبل منه. ولكن ما العمل بذنوب لا يُقر بها، أو ترمى على كاهل الطرف الآخر؟

عباس يشكو إلى الله من هنية، وهنية يشكو إلى الله من عباس.

أفهل تجدي العمرة في هذه الحال؟

8