عيد الحب المصري

اليوم أصبحنا أمام سلطة العلاقات الافتراضية وغرام الروبوتات وقصائد الذكاء الاصطناعي وفوق ذلك بتنا مجرد أرقام تمشي على الأرض بفردانية مقيتة.
الأحد 2024/11/03
الحب يعيد إلينا كل فضائلنا

قبل 50 عاما، في الرابع من نوفمبر 1974 نشر الكاتب الصحفي المصري الكبير مصطفى أمين في عموده الشهير "فكرة" بصحيفة "الأخبار"، "نريد أن نحتفل لأول مرة يوم السبت 4 نوفمبر بعيد الحب، حب الله وحب الوطن وحب الأسرة وحب الجيران وحب الأصدقاء وحب الناس جميعا.. هذا الحب سوف يعيد إلينا كل فضائلنا ويبعث كل قيمنا، يوم كانت النخوة طابعنا والمروءة ميزتنا والشهامة صفتنا".

في العام 2017 كشفت صفية مصطفى أمين في مقابلة معها على صفحات “أخبار اليوم” عن السر الذي كان وراء اقتراح والدها بإحياء عيد للحب في بلاده، فقالت إنه شاهد جنازة في حي السيدة زينب بوسط القاهرة، فتعجب من وجود ثلاثة رجال فقط يسيرون في الجنازة، إذ من المعروف عن المصريين أنهم يشاركون عادة في الجنازات بأعداد وفيرة حتى ولو كان الميت لا يعرفه أحد، فقيل له إن الفقيد كان رجلا لا يحب أحدا ولا يحبّه أحد .

جاء ذلك المقترح في ذلك الزمن الذي نصفه اليوم بالجميل، والذي كانت أصوات أم كلثوم وعبدالحليم ووردة وفائزة ونجاة وفيروز وغيرهم لا تزال تصدح فيه بأغاني الحب والغرام، وكان نزار قباني في أوج تجربته الشعرية التي انبنت على العواطف الجياشة، وكانت الحدائق العامة لا تزال خضراء يانعة قبل أن يأتي عليها التلوث والإهمال، وكان العشاق لا يزالون يتبادلون رسائل الحب والمناديل المعطرة ودواوين الشعر ويناجون القمر ويبثون لواعج العشق والأشواق على ضوء الشموع وهمسات الموسيقى .

بعد 14 عاما من نشره تلك الفكرة، كتب مصطفى أمين في نفس العمود وبنفس الصحيفة في 14 نوفمبر 1988، «الذي لم يعرف الحب لم يذق طعم السعادة ولم يتمتع بجمال الدنيا، وحب الوطن يبنى الأمم وحب الوالدين يصنع البيت السعيد وحب العمل يفتح الطريق إلى النجاح، ولا تستطيع أن تنجح في أيّ عمل إلا إذا أعطيته روحك وعقلك ووقتك ولن يتم ذلك إلا بالحب.. لكل ذلك نريد أن نعيد الحب إلى قيد الحياة فنعيد الأمل إلى نفوسنا والابتسامة إلى قلوبنا ونعيد للدنيا جمالها وحلاوته والحب طبيعة الأبطال والشعراء والفنانين والعشاق هم الذين صنعوا أجمل الألحان وأعذب الموسيقى ورسموا أروع اللوحات وأفخمها".

في مقال آخر كتب مصطفى أمين "إننا نريد أن نعيد الحب إلى بلادنا.. نحب زوجاتنا وحبيباتنا نحب أولادنا وبناتنا. نحب أصدقاءنا وجيراننا. نحب وطننا.. نحب الناس جميعا، لقد تعلمنا كيف نكره سنوات طويلة، نريد اليوم أن نتعلم كيف نحب، كيف نعفو، كيف نتسامح، كيف ننسى. الحب يجعل الحياة حلوة.. يجعل الزهور تتفتح.. يجعل القلوب تصفو.. يجعل الشمس تشرق".

حاليا بات المصريون يحتفلون بعيدين للحب، عيد مصطفى أمين في الرابع من نوفمبر وعيد سان فالنتاين في الرابع عشر من فبراير. ولكن يبدو أن الحب يتراجع في كل بلاد العالم بعد أن أصبح مرتبطا بالحاجة والمصلحة وأنهكته السرعة وعقلية الاستهلاك، وأفقدته زحمة الاختراعات والاكتشافات عفويته وتلقائيته والمساحات التي كانت متاحة للتعبير عنه. اليوم أصبحنا أمام سلطة العلاقات الافتراضية وغرام الروبوتات وقصائد الذكاء الاصطناعي، وفوق ذلك بتنا مجرد أرقام تمشي على الأرض بفردانية مقيتة، أرقام في أجهزة الحاكم وأرقام في نظر المحكوم.

18