عودة تفشي مرض الحصبة يثير الجدل في العالم

عاد مرض الحصبة للانتشار هذه السنة بوتيرة أكبر، بعد تراجع مهم في عدد المصابين والوفيات الناتجة عنه كان شهده عام 2016. هذا الارتفاع المطرد، من سنة إلى أخرى، أطلق موجة كبيرة من التجاذبات حول خطورة الوضع في سائر دول العالم.
جنيف – أدرجت منظمة الصحة العالمية رفض التطعيم ضد الحصبة ضمن أكثر عشرة أخطار تهدد الصحة العالمية وانتقدت بشدة كل الحملات المناهضة لتلقي التلقيح بدعوى أن المواد المحقونة فيها سمية عالية وتشكل تهديدا كبيرا على الأطفال.
وأوضحت المنظمة أن عودة المرض للانتشار هي نتيجة حتمية لعدم حصول الأطفال على جرعات التطعيم المنصوص عليها دوليا وبينت أن ذلك يرجع، في جزء كبير منه، إلى الحملات المناهضة للقاح، لكن تتزايد الإصابات أيضا بسبب ضعف الخدمات الطبية أو غياب التوعية اللازمة.
ويحتدم الجدل بين من يشدد على ضرورة تلقي التطعيم وسلامته، واعتبارها الوسيلة الوحيدة للنجاة وبين من يصر على أن عودة الحصبة للتفشي ليست سوى أمر طبيعي ونتيجة منطقية لأن المرض مصنف ضمن الأمراض المعدية.
وكانت منظمة الصحة العالمية قد حذرت من الازدياد الكبير في الإصابات بمرض الحصبة في العالم، إذ سجلت ارتفاعا يقرب من 50 بالمئة العام الماضي مقارنة مع سنة 2017.
وقالت مديرة قسم التلقيح والمنتجات الحيوية في المنظمة، كاثرين أوبراين، خلال مؤتمر صحافي “عندما نرى ازديادا بنسبة 50 بالمئة في عدد الحالات المبلغ عنها، ندرك أننا نسير في الاتجاه الخطأ”.
وأضافت “بياناتنا تظهر ازديادا كبيرا في حالات الحصبة. نلاحظ ذلك في المناطق كافة. نسجل أوبئة تتمدد وتأخذ حجما كبيرا”.
وبحسب البيانات الواردة للمنظمة حتى منتصف يناير، سجلت حوالي 229 ألف حالة حصبة في العالم سنة 2018 في مقابل 170 ألفا في 2017.
منظمة الصحة أكدت أن الحصبة مرض خطير وشديد العدوى يمكن تفاديه عن طريق جرعتين من لقاح "آمن وفعال"
وكانت منظمة الصحة العالمية قد احتفت عام 2016 بانخفاض الوفيات الناجمة عن مرض الحصبة عالميا لأقل من مئة ألف حالة لأول مرة في تاريخ المرض، إذ بلغت آنذاك 90 ألف حالة وفاة، لكن الإنجاز سريعا ما تراجع، وزادت أعداد الوفيات في العام التالي (2017) بنسبة 20 بالمئة، لتصل إلى 110 آلاف حالة وفاة.
واستمرت الزيادة في عام 2018، إذ تسببت الحصبة في وفاة 111 ألف شخص حول العالم.
ولفتت المسؤولة الطبية في برنامج التلقيح الموسع في منظمة الصحة العالمية، كاترينا كريتسينغر، إلى أن “كل المناطق شهدت ارتفاعا في عدد الحالات العام الماضي”. وأوضحت أن “منطقة أوروبا سجلت حوالي 83 ألف حالة في 2018 وحتى اليوم بينها 53 ألفا في أوكرانيا”.
وتشير منظمة الصحة إلى أن الحصبة مرض خطير وشديد العدوى يمكن تفاديه عن طريق جرعتين من لقاح “آمن وفعال”، منتقدة انتشار معلومات خاطئة عن اللقاح خصوصا في البلدان الغنية.
ويمكن للحصبة التسبب بمضاعفات خطيرة وحتى مميتة بما يشمل التهاب الدماغ والالتهاب الرئوي وفقدان البصر الدائم. كما أن خطر الوفاة والمضاعفات كبير خصوصا لدى الأطفال الرضّع وأولئك الذين يعانون سوء تغذية أو ضعفا في جهاز المناعة.
وخلال الشهر الماضي، تم إعلان حالة الطوارئ في عدد من الولايات الأميركية والفلبين ومدغشقر، بعد تفشي مرض الحصبة. وقال المسؤولون إن أكثر المصابين هم من الأطفال الذين لم يُلقحوا ضد المرض.
وفي رد على إطلاق منظمة الصحة العالمية ناقوس الخطر بشأن الانتشار الكبير لحالات الحصبة، أفاد تقرير نشرته هيئة الإذاعة البريطانية، بي بي سي، أن المناهضين للقاحات يرون أن استخدام “تفشي المرض” للدلالة على أهمية التطعيم فيه مغالطة. وبحسب لاري كوك مؤسس حملة “أوقفوا التطعيم الإجباري” في الولايات المتحدة، فإن الأمراض المعدية لها دورة في المجتمعات، ومن الطبيعي أن تظهر بشكل جماعي من وقت لآخر “وحينها يكتسب الأطفال مناعة من أمهاتهم عن طريق الرضاعة الطبيعية وغيرها من العوامل. وينتهي الأمر باكتساب مناعة جماعية طبيعية”.
وقال كوك إن رفض التطعيم “ليس موقفا بقدر ما هو أسلوب حياة، تسعى من خلاله الأسر إلى إكساب أطفالها عناصر طبيعية تمكن أجسامهم من مواجهة المرض”. ويرى أن الهدف ليس منع الأطفال من اكتساب العدوى، وإنما التأكد من أن أجسامهم قوية بشكل كاف (عن طريق الظروف الصحية الملائمة والتغذية السليمة) لتحمل الأعراض واكتساب مناعة طبيعية تحمي أجسامهم ربما إلى الأبد.
ويشدد كوك على أن اللقاحات ليست وسيلة لبناء المناعة وتقويتها كما يُروَج لها، وإنما “مواد شديدة السمية” تعمل على تحفيز الجهاز المناعي بشكل مفتعل ليزيد من إنتاج الأجسام المضادة. “وبدلا من تقوية الجهاز المناعي نفسه بشكل طبيعي، يعتمد نجاح اللقاح على زيادة أعداد الأجسام المضادة التي يفرزها الجسم. لذلك، تحتاج معظم اللقاحات لجرعة تحفيزية ثانية”.
وأضاف أنه مع الوقت لن يستطيع جسم الطفل تطوير رد فعل مناعي متكامل لأي عدوى (لاعتماد الجسم على الأجسام المضادة التي تحفزها اللقاحات)، ما يجعله أكثر عرضة للأمراض.
تتعدد أسباب رفض التطعيم ضد الأمراض التي يمكن القضاء عليها باللقاحات. فبجانب الاعتقاد بخطورتها أو عدم جدواها، ترفض بعض المجتمعات أخذ اللقاح لاعتبارات دينية
وفي المقابل، أكد روبن ناندي رئيس برامج التحصين في منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف)، أن هذه النظريات تم تفنيدها وإثبات جدوى وسلامة اللقاحات علميا، كونها صورة مصغرة من المرض. وتكمن المشكلة هنا في غياب العرض المبسط للمعلومات “فعدم شرح الأعراض الجانبية الطبيعية لتطعيم ما، يدفع الأفراد لرفض فكرة التطعيم ككل والاعتقاد بعدم جدواها”.
وأضاف أن “ما يُعرف بالطرق الطبيعية” لاكتساب المناعة وعلاج الأمراض بعيدا عن اللقاحات والأدوية تعتبر “مغامرة بالغة الخطورة”، يتعرض الطفل فيها لمخاطر لا يمكن احتواؤها أو تغييرها.
وتجدر الإشارة إلى أن منظمة الصحة أدرجت رفض التطعيم ضمن أكثر عشرة أخطار تهدد الصحة العالمية في مطلع عام 2019، بسبب الزخم الذي اكتسبته الحملات المناهضة له والإحصائيات التي كشفت عودة أمراض وبائية كانت قد أوشكت على الاختفاء.
ووفقا لتقرير الـ’بي بي سي’، ثمة رأي آخر يرى أن الأمر أكثر تعقيدا من تأثير الحملات المناهضة للقاحات، حيث يؤكد ناندي أن عودة بعض الأمراض للانتشار ترتبط بعدة عوامل، ليس من بينها بالضرورة تأثير الحملات الرافضة للتطعيم.
وما ينبغي ألا تتغافل عنه الحكومات والهيئات الصحية هو عزوف مجموعة كبيرة من الناس بشكل غير إرادي عن تطعيم أطفالهم، وقد يرجع ذلك إلى ضعف الخدمات الطبية أو غياب التوعية والمعلومات الكافية أو ضعف التواصل مع المجتمعات المهددة.
وأرجع ناندي سبب تفشي الحصبة مؤخرا في مدغشقر، على سبيل المثال، إلى غياب اللقاحات والخدمات الطبية المناسبة، قائلا “في بعض المناطق (في مدغشقر وغيرها)، تسير الأمهات لفترات قد تبلغ ثلاث ساعات للوصول إلى عيادات التطعيم. وإذا لم تتوفر لهن الخدمة، قد لا يعدن مجددا، أو قد يتجاوزن عن بعض التطعيمات”.
وتتعدد أسباب رفض التطعيم ضد الأمراض التي يمكن القضاء عليها باللقاحات. فبجانب الاعتقاد بخطورتها أو عدم جدواها، ترفض بعض المجتمعات أخذ اللقاح لاعتبارات دينية. كما تروج الحكومات في بعض البلدان إلى أن التطعيم مؤامرة غربية وفخ يجب تجنبه.
وتنتشر المجتمعات الرافضة للقاحات (على اختلاف مرجعيتها) في كل مكان، حتى البلدان التي يكون فيها التطعيم إجباريا. ففي الولايات المتحدة على سبيل المثال، يحصل البعض على “إعفاء لأسباب دينية” من التطعيم، الأمر الذي يساعد على تفشي المرض في بعض المناطق من وقت لآخر.
ويقول ناندي إن الفيروسات دائما ما تبحث عن الطفل المعرض للإصابة، “وتفشي الأمراض بهذا الشكل من وقت لآخر يُعتبر إنذارا لنا بضرورة تطوير سياسات التحصين”.