عودة العرب إلى القرون الوسطى

من هنا تأتي أهمية إصلاح وتجديد منظومتنا الاجتماعية والثقافية بما يتناسب مع روح العصر، فالإصلاح والتجديد هما حجر الزاوية في أي محاولة للنهوض ومواكبة الوتيرة السريعة للتنمية العالمية.
الاثنين 2023/09/04
نحو مستقبل أكثر إشراقا

“في مجتمع كمجتمعنا الياباني نضيف حقائق جديدة، بينما يكتفي العربي باستعادة الحقائق التي اكتشفها في الماضي البعيد”. 

                                                                                              (نوبوأكي نوتاهارا)

عندما قال جيمس بيكر وزير خارجية أميركا لوزير خارجية العراق طارق عزيز سنعيد العراق إلى القرون الوسطى، لم نكن نعلم في وقتها أن ذلك سوف ينصرف إلى الكثير من الدول العربية. حيث تشهد الآن عصرا من العصور المظلمة نتيجة سقوطها في فخاخ الأفكار والعقائد البالية التي عفا عليها الزمن، وكان يكفي لتنفيذ ذلك تسيد حثالات المجتمع ليتم ترويجها من خلال اللعب على وتر التدين الزائف، أو حماية المقدسات لاستعطاف المواطنين وغسل أدمغتهم للسيطرة على الدولة والمجتمع.

وتوج هذا النهج باختطاف الحركات الجماهيرية فيما سمي بالربيع العربي، التي كانت تهدف إلى الحرية، والتطلع إلى مستقبل جديد يتسم بالانفتاح السياسي والتقدم الاجتماعي. وفي السنوات اللاحقة استطاعت قوى الظلام والطائفية من إحكام السيطرة على مقدرات بعض الدول العربية بدعم من قوى إقليمية ودولية، فأشعلت حروبا أهلية مازالت آثارها قائمة إلى يومنا الحاضر، وقد تسببت بفقدان الاستقرار السياسي وتأجيج الصراعات الطائفية والعرقية والتوترات الاجتماعية.

وعَرَّضوا بنهجهم التخريبي هذا الأمن القومي العربي إلى الخطر، مدفوعين بنظريات تعادي كل ما هو وطني، فزادت التدخلات الأجنبية بالشؤون الداخلية للعرب.

إن عدم الاستقرار السياسي هذا قد خلق حالة من الفساد والفوضى في الكثير من الدول العربية وأدى إلى ظهور الحركات المتطرفة والراديكالية وتسبب في خلخلة التماسك الاجتماعي، حيث سعى الأفراد المحبطون إلى إيجاد مسارات عشائرية وقبلية بديلة عن الدولة، بسبب الإخفاقات الملحوظة لحكومات ضعيفة.

فانتشرت الجريمة والبطالة والمخدرات وضعفت الخدمات المقدمة إلى المواطنين من تعليم وصحة وكهرباء وماء وغيرها من المستلزمات الأساسية للبشر، وقد شهدت دول مثل العراق ولبنان وسوريا وليبيا واليمن ثم السودان الاضطهاد والتمييز تجاه الأقليات، إضافة إلى الفئات الضعيفة مثل النساء والأطفال. وتسببت في تآكل الحريات المدنية فيها كحرية التعبير والصحافة والتجمع، وما تبعها من الفقر العلمي والثقافي والانغلاق الفكري، ونتيجة لذلك تراجعت جوانب مهمة من الحضارة، حيث يصرّ السياسيون الجدد على اجترار الماضي ومحاولة إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. مما أدى إلى نكوص التقدم العلمي والثقافي، في وقت تنشغل فيه بقية دول العالم بتعليم أبنائها بأعلى درجات العلوم والتكنولوجيا في مجالات الحياة كافة.

◙ الضرورة أصبحت حاسمة للمواءمة بين الهوية الثقافية والتراث من جهة وبين التقدم العلمي والتواصل التكنولوجي من جهة أخرى لتجنب الركود المعرفي والانعزال الفكري السائد حاليا

هكذا جرى العمل على تخريب العقل العربي وتعطيل مسارات التقدم بأنماط مشوّهة من المقدسات المزعومة والفتاوى الباطلة.

لعل من أهم مرتكزات تعطيل التقدم وتخريب القيم العليا هو إفناء الطبقة المتوسطة من المجتمع التي كانت تحمي وتديم قيمه العليا وتحافظ على إنجازاته الفكرية والاستثمار في التعليم والابتكار.

ومن هنا تأتي أهمية إصلاح وتجديد منظومتنا الاجتماعية والثقافية بما يتناسب مع روح العصر، فالإصلاح والتجديد هما حجر الزاوية في أيّ محاولة للنهوض، ومواكبة الوتيرة السريعة للتنمية العالمية.

إن التزام العالم العربي بهويته الثقافية له جذوره التاريخية العميقة. ويلعب التراث، على وجه الخصوص، دورًا مهما في تشكيل ثقافة العديد من المجتمعات العربية وقيمها.

إنا لا ننكر أهمية ذلك في حياة الشعوب، ولكن المبالغة في استذكار التاريخ ومحاولة إنهاضه بأدوات قديمة وبالية لهو التهافت بعينه.

إن الخروج من هذا المأزق لا يتم إلا عن طريق بناء الدولة المدنية العصرية وفق أسس علمية رصينة تهدف إلى مكافحة التجهيل والفكر الظلامي، وتسير جنبا إلى جنب مع النهوض الصناعي والاقتصادي.

كما أصبحت الضرورة حاسمة للمواءمة بين الهوية الثقافية والتراث من جهة وبين التقدم العلمي والتواصل التكنولوجي من جهة أخرى لتجنب الركود المعرفي والانعزال الفكري السائد حاليا، والانطلاق نحو مستقبل أكثر إشراقا، لنتجاوز مرحلة مظلمة هامشية في حياتنا سادت فيها أطروحات عقيمة عفا عليها الزمن، وغاب فيها العقل الرشيد والمنطق القويم.

8