عودة إلى زمن السادات

الحديث عن خيانة السادات للقضية الفلسطينية لا معنى له فهو لم يخذل العرب حين أقدم على خطوته، فالعرب هم الذين خذلوا مصر حين تخلوا عنها بإصرارهم على تمكين الوهم من الحقيقة.
الثلاثاء 2024/07/16
كامب ديفيد سجلت آخر الحروب مع مصر

كان الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات على يقين من أنه لو أخبر إخوته الملوك والرؤساء العرب بعزمه على زيارة إسرائيل لما وافقه أحد.

أما قرار عزل مصر وإقصائها فلم يكن أسوأ قرار اتخذه العرب مجتمعين بقدر ما كان حاضنة لكل قراراتهم السيئة التي اتخذوها في ما بعد.

إذا ما كان السادات قد انطلق من فكرته عن آخر الحروب فإن العرب حين عزلوا مصر انتقاما من السادات حفروا الخندق الأول في سلسلة خنادقهم التي رسخت قطيعتهم، بعضهم عن البعض الآخر.

وبالعودة إلى حرب أكتوبر 1973 فإنها إن لم تكن نصرا على العدو الإسرائيلي فإنها لم تكن هزيمة على الأقل. وهو ما كان يجب أن يُحسب لمصر قبل أن يُحسب للسادات.

كان مفهوم “آخر الحروب” انتقالة ذكية في تاريخ ملأته المزايدات الفارغة كلاما صنعت أناشيدُه المدرسية أجيالا لا تفرّق بين ما هو حقيقي وما هو زائف.

◄ إذا ما كانت حرب غزة كارثة حلت بفلسطينيي القطاع فإنها ليست إلا حلقة من حلقات الكارثة التي صنعتها الأنظمة القومية العربية التي عزلت مصر حين شعرت بالإحراج في مواجهة خطوة السادات

وليس جديدا القول إن كل البيانات التي حملت الانقلابيين إلى واجهات في دول عربية عديدة أخذت من فلسطين شطرا من تعاستها لتصنع منه حلوى لزمن قادم.

لم يخذل السادات العرب حين أقدم على خطوته المتهورة. فالعرب هم الذين خذلوا مصر حين تخلوا عنها منطلقين من إصرارهم على تمكين الوهم من الحقيقة.

لا أريد أن أحكم في ما إذا كان بطل العبور سياسيا واقعيا خسر سمعته بسبب واقعيته أو أنه كان رجل دولة ماهرا في نصب المكائد لأعدائه.

كل حديث عن خيانته للقضية الفلسطينية لا معنى له. فالسادات حارب من أجل أن تستعيد مصر شيئا مهمّا من كرامتها التي فقدتها عام 1967.

لم يقل إنه ذاهب إلى إسرائيل من أجل الشعب الفلسطيني بل كان هدفه أن يضع حدا لصراع عرف أنه لن ينتهي إلا عن طريق مبادرات “جريئة وشجاعة”.

لقد أنهى السادات حالة اللاحرب واللاسلم بالحرب والسلم معا. حطم أسطورة الجيش الذي لا يقهر ووهب مصر نصرا كما أنه وقف أمام العالم باعتباره رجل سلام.

ما الذي فعله الآخرون بعد أن أحرجوا أنفسهم وفضحوا رثاثة وسقم تفكيرهم السياسي حين عزلوا مصر؟ فعلوا الأسوأ. ذلك لأن فلسطين تراجعت في العقل السياسي العربي وصار العرب هامشيين بالنسبة إلى العقل السياسي الفلسطيني.

حتى لو كان السادات على خطأ في ما سُمّي بـ”زيارة العار” فإن التخلي عن مصر وهي قلب العروبة كان بمثابة الثغرة التي تسللت من خلالها كل الأفكار التي مهدت لانطفاء وهج الفكر الوحدوي العروبي.

لم يكن احتلال الكويت منتصف عام 1990 إلا نتيجة متوقعة ولم يكن شعرة معاوية كما قيل يومها. كان ذلك أشبه بقميص عثمان الذي سيظل يرفرف مثل راية.

◄ بالعودة إلى حرب أكتوبر 1973 فإنها إن لم تكن نصرا على العدو الإسرائيلي فإنها لم تكن هزيمة على الأقل. وهو ما كان يجب أن يُحسب لمصر قبل أن يُحسب للسادات

اليوم يكثر الحديث عن الموقف السلبي لمصر من حرب غزة، كما لو أن المطلوب من مصر أن تدخل حربا بناء على تعليمات من حركة حماس.

ومصر وهي دولة كبرى سبق لها وأن عانت كثيرا من مؤامرات جماعة الإخوان المسلمين لا يمكنها سوى أن يكون لها موقف مستقل. ذلك ما يجب أن يُفهم على نطاق واسع. ولا تنفع المزايدات العاطفية في إخفاء التآمر.

ومثلما لم يتخلّ السادات عن فلسطين حين قرر أن يحلّ السلام محلّ الحرب، فإن مصر اليوم أكبر من أن تُجرّ إلى فخ يفقدها مصداقيتها الوطنية والقومية.

لست هنا في مجال الدفاع عن النظام المصري الحالي، غير أنني أفهم أن الكوارث التي يعيشها العالم العربي هي ليست من النوع الذي يمكن أن يُغطّى بالأناشيد.

وإذا ما كانت حرب غزة كارثة حلت بفلسطينيي القطاع فإنها ليست إلا حلقة من حلقات الكارثة التي صنعتها الأنظمة القومية العربية التي عزلت مصر حين شعرت بالإحراج في مواجهة خطوة السادات التي فضحت نفاقها.

قبل هزيمة يونيو عام 1967 كان الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة قد دعا إلى تبني حل الدولتين الذي نصّ عليه قرار مجلس الأمن حين قُسّمت فلسطين.

اليوم يعود ذلك الحل إلى الواجهة في ما لا يملك العرب القوة على فرضه أو الدفاع عنه في مواجهة آلة الاستعمار الإسرائيلي.

فرض السادات سلامه على إسرائيل وكان منتصرا. أما وقد سمح الانهيار السياسي الذي يعيشه العالم العربي لحركة حماس ومن ورائها إيران بإدارة ملفات الحرب والسلام فإن العرب لا يملكون سوى أن ينتظروا.

8