عن قارب القصيدة بين إزمير وليسبوس

كيف يمكن لشاعر أن يستعيد قصيدته ليتحدث عنها وهو الذي خرج من أتون كتابتها كما خرجت هي من جحيم التجربة التي وقفت وراءها وكانت باعثا عليها؟
على هذه الحال وهذا الشعور أعود لأقف على قصيدتي “قارب إلى ليسبوس″. أشعر باستحالة أن يتكلم شاعر على قصيدة له تنهض بملحميتها على أصوات كل ما تحمله إلى أسماعنا هو ضجة الأسى الجماعي وعصف الآلام الكبرى في تغريبة شعب.
***
تواريخ العالم القديم حفلت بصور لا تنتهي للعذابات البشرية؛ سجلّ مرعب للمصائر الجماعية. حدث هذا في العراق ومصر واليونان وبلاد الشام. وإنّ صور الفجائع التي تخلّلت الثورات والحروب وأعقبتها لتكاد تطبع التاريخ البشري بأسره من أقدم الأزمنة. لكن الوجدان البشري المكلوم لم يجد لغة أعلى من لغة الشعر لتسجيل تلك المواجع الكبرى، ومواجهة الفناء ومنازلته، ومن ثمّ خوض معركة البقاء وهزيمة الألم.. فكانت الإلياذة والأوديسة والإنيادة وبعدها بقرون المهابهاراتا والرامايانا وعشرات الملاحم الشعرية المكتوبة بالمصائر الجماعية؛ هدية الدم البشري المهراق للنفس البشرية المعذبة بآلامها، الخائفة على مصير نسلها من أهواء القوة وجنون البطش، المكافحة لأجل البقاء.
الشعر، هنا، على هذا المفترق، هو صوت الحياة في مواجهة أصوات الفناء.
***
قيل إن الأزمنة الحديثة، لا سيما بعد حربين عالميتين ومئة مليون أضحية بشرية أهرقت دماؤها على مذبح الإمبراطوريات والدكتاتوريات، سلكت طريق العقل. هكذا أوهمنا العالم حصة من الزمن. سمعنا أحاديث أكاديمية وأخرى دعائية عن شرعة حقوق الإنسان. صدَّقَ الأبرياءُ وخُدع المخدوعون. وكان أن شاع ظنٌّ بأن الشعر والأدب والفن وإبداعات الخيال إنما ابتكرت لتلطّف من همجية البشر.
***
تحت القشرة ووراء القناع كانت تجري في النفس البشرية أنهار من الظلمة، ما أن اضطربت الأحوال حتى انفلقت الأرض وخرجت من عماء الرّوح البشري وحوش لا قاموس يصف همجية أفعالها، لتتفجّر الصورة عن أنهار من الدماء في جغرافيتين من ثلاث جغرافيات في الأرض هي الأعظم حضارةً قاطبة: العراق والشام وفي جوارهما مصر.
وإذا بالصورة المعاصرة للشام والعراق تتكشف عن هاوية من الظلمة لا قرار لها لا في الجغرافيا ولا في التاريخ.
***
ماذا يمكن للشعر أن يفعل بإزاء وقائع تعجز القواميس عن وصف أهوالها؟
ولكن ماذا يمكن لغير الشعر أن يفعل في وصف ما لا يوصف؟
ماذا يمكن للروح الإنسانية المصدومة بالأهوال أن تفعل بآلامها من دون سطر شعري يهزم ببلاغته المضادة بلاغة الجريمة ولسانها الشيطاني، ويمجّد الحياة في وجه وحش الموت؟
|
***
على هذه الخلفية الفادحة من الوقائع المهولة المقرونة بالقلق الوجودي كتبت شعري منذ خمس سنوات، أنا ساكن المنفى وقد طاله زلزال الثورة العظيمة في منفاه وشقق من تحت قدميه ثلاثة عقود من أرض المنفى، وناداه إلى ذرى جديدة يطلّ منها على عالم جديد، فكان أن أحيت الثورة على الطغيان الأمل في روحي من بعد يأس، وفجّرت في لغتي مكبوتاتها وآلامها، وجعلت لتلك المكبوتات والآلام صوراً وكلمات فصارت لها هيئة وكيان منظوران.
***
ثلاثون عاما وأنا أمضي على طريق الرعد بحثا عن أصل العاصفة. لطالما كان شعري ثورة على اللغة القديمة، وعلى التقاليد البالية، وعلى المصطلحات الآسرة التي أرادت أن تحتجز صورة الشعر العربي الحديث في إطار واحد. وكذلك ثورة على حداثة بطرياركية واهمة وموهومة.
إنما الشعر نهر خيالات جامحة، فهل يمكن للنهر أن يؤسر في فكرة، أو يمكن للخيال أن يتحول إلى صنم؟
الثورة والشعر توأمان عاشقان يتقاسمان أرض المغامرة وسماء المخيلة.
***
رحلة البحث عن الحرية امتدت من دمشق إلى بيروت إلى قبرص فلندن حيث أنا اليوم، وحيث لم أبرح أنادي في شعري العاصفة، تارة بهمس العاشق وأخرى بنزق الغاضب، وها أنا اليوم في قلب تلك العاصفة ومصيري الشخصي لم يعد شخصياً.
انتفاضة الناس وأهوال الاستبداد، التي صبت جحيمها على شعب تدافع أجمل أبنائه وأطعموا نار الحرية أجسادهم بكرم وبسالة أسطوريين، وضعتني، مرة واحدة، أمام تحديات كبرى، أولها كيف أواجه لغتي التي بها أكتب شعري، كيف أعاركها لأكتب ما لم أكتب من قبل.
***
لطالما تقلبت بخياراتي اللغوية والجمالية، لكن التحدي هذه المرة كان مختلفا، كيف يكتب شاعر قصيدته في لحظة البركان، أيّ لغة تلك التي يمكنها أن تصهر تجربة شاعر في لحظة كاسرة لشعب راح يكتب وجوده بقطرة الدم. شعب لم يعد لديه لغة أخرى يكتب بها تاريخه سوى لغة الدم. هل يمكن للشاعر أن يكافئ الدم بقصيدة تليق بكرامة الشعر؟
***
ليس ثمة ما هو أكثر تراجيدية من الموت غرقا في بحر بلا قرار بينما أنت تحاول النجاة من الموت على اليابسة، وقد أفلت للتوّ من يد القاتل. إن كل أساطير العالم القديم لتقف عاجزة أمام صور الموت البحري للسوريين الهاربين من جحيم الاستبداد، وقد أمسوا شهداء العالم الحديث على مفترق القارات.
لكنّ الشعر أبداً يبقى، عبر الأزمنة، صوت الضحية الصّارخ في برية العالم.
شاعر من سوريا مقيم في لندن