عن فقدان الأمل بالبطيخ والمشمش

إذا كنت تعيش في مجتمع تهيمن جماعات الإسلام السياسي على نقاشه العام.. فلك أن تفقد الأمل، وأعلم أنك لن تنجو من جارك، ولا من نفسك، ولن يبقى لك وطنٌ تأمنُ العيش فيه.
الثلاثاء 2018/12/04
جماعات الإسلام السياسي في العراق اختارت أن تستجلب الشقاق الداخلي

لو أن العراقيين تنازعوا حول “التمايزات” بين البطيخ والمشمش، لتحوّلت بلادهم إلى جنة فواكه. ولكان التنازع أدّى إلى أن تتحوّل كلُّ قطعة أرضٍ بستانا يتنافس فيها “المتمايزون” للبرهان على جدارة ما يزرعونه.

وأكثر ذلك فإن المدافعين عن البرتقال والليمون والنارنج ما كانوا ليتركوا سبيلا لإقامة الدليل على أنه لا حياة من دونها، وأن الواجب الوطني يقتضي الحفاظ على حقوق كل الأقليات الخضرواتية الأخرى التي لا تحظى بالاهتمام الكافي، كالباذنجان والخس والفلفل. ولكانت الأرضُ قد اخضرّت، وتسابقت جداول الماء لتروي. وأشفق السحابُ فسقى.

ولكنهم تمايزوا على أساس “سنة” و”شيعة” و”أقليات أخرى”، فغرقوا بالفساد، وانساقوا بكل ما أوتوا من عمى العين والقلب، ليسفكوا دماء بعضهم البعض. وبلغت الوقاحة ببعضهم أن يحرقوا المساجد، وأن يقتل الجار جاره، وهو ينشد “علي وياك علي”. (يقصد أن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، يشارك في الهجوم)! “طيّح الله حظكم”. و”قبور اللّي ما لفتكم”. هذا ما كان يجب قوله. وهذا ما كان في الواقع.

ولا أدري إن كان الغرق في طوفان الدماء والفساد هو نسخة معاصرة من طوفان نبي الله نوح، فإن الناجين أقل من قلة، حتى لكأنهم “من كل زوجين اثنين” بالفعل. ولكن ما هو المعنى من ذلك؟

المعنى، هو أنك إذا اخترت موضوعا أو قضية لكي تسيطر بها على مجرى “النقاش العام”، فان هذا المجرى سوف يجرف المجتمع كله ويسير به في اتجاهه. وكلُّ حزب إنما ينهل من منهجه، ويسعى إلى جعله “تيارا” جارفا. أو قل “كلُ إناءٍ بما فيه ينضح”. ولو أنك نظرت به بإمعان، لأمكنك أن تتنبأ لزرعه ما سوف يحصد.

فماذا كان من طبيعة جماعات الإسلام السياسي أن تنضح في العراق، لكي تفرضه على النقاش العام؟ لقد اختارت أن تستجلب الشقاق الداخلي، وأن ينظر كل منها على أنها هي الحق، وهي الناطق الرسمي باسمه، وهي “الفرقة الناجية”، حتى لم ينجُ أحدٌ من بطشها، ولا هي نجت من بطش الآخرين، وعمّ الفشل على كل وجه من وجوه الحياة.

الشيء نفسه تفعله كل جماعات الإسلام السياسي في كل مكان آخر. إنها تسعى لكي تُملي على المجتمع وجها آخر للنقاش، لا يتعلق بقضايا التنمية أو العمران الاجتماعي والاقتصادي، أو التقدّم العلمي، أو معالجة المشكلات الحيوية كالبطالة وفقر التعليم والخدمات الصحيّة وهزال البنية التحتية، أو باقي أزمات العيش الأخرى.

إنها تريد أن تشغل الناس عن هذا كله، لكي تسمح للمسلم بأن يستعلي على المسيحي فيكفّره ويبيح دمه، وأن ينظر المسلم إلى المسلم الآخر من منظار مذهبه، ليكفّره أيضا ويُجيز قتله إن لم يثب إلى رشده أو يستغفر، وأن ينظر إلى المرأة على أنها عورة يجب تغطيتها بكيس فحم، وإلى العالم كله على أنه عدو تجب محاربته، وإلى الموت على أنه هدفٌ ومسعى، وإلى حياة البشر على أنها شيء لا قيمة له.

أين تجد هذا النمط من “النقاش العام”؟ لن تجده إلا في بلدان عمّ فيها الخراب، وأصبح الفسادُ سيّد الشؤون فيها، وبات المجتمع خرقا ممزقة، يتناحر مع نفسه، وتتلبد في أفقه الكوارث. ولقد تبددت على هذا المنوال مجتمعات بأسرها، حتى لم تعد تعرف ما إذا كانت قادرة على النهوض، أم أنها دفنت وجودها كله تحت سيل من الخراب، هو وحده الذي سيبقى كصرح مشهود على انحطاطها الشامل.

إذا كنت تعيش في مجتمع تهيمن جماعات الإسلام السياسي على نقاشه العام، وتفرض مفاهيمها عليه، فلك أن تفقد الأمل، وأعلم أنك لن تنجو من جارك، ولا من نفسك، ولن يبقى لك وطنٌ تأمنُ العيش فيه، ولا أرض تزرع فيها بطيخا ولا مشمشا.

9