عندما يصطدم التغير المناخي بدولة فاشلة أو تكاد

يوم 10 سبتمبر الجاري حل ركب التغير المناخي بدولة فاشلة أو تكاد.
حدث ذلك في شرق ليبيا، وفي مدينة درنة على وجه التحديد، فكانت النتيجة الآلاف من القتلى والمفقودين.
تجلت من خلال الكارثة الطبيعية المشاكل المزمنة التي يعيشها القطر الليبي والتي قد تجعله عرضة لكثير من التحديات والمخاطر في المستقبل.
كانت “العاصفة دانيال” التي هبت بشدة على الساحل الشرقي لليبيا من نوع العواصف المتوسطية العنيفة التي تحمل في كثير من الأوجه صفات الأعاصير.
حتى إن كان التغير المناخي هو سبب العاصفة فلم يكن بكل تأكيد الوحيد وراء المأساة. هناك عوامل شتى ما انفكت تواجهها ليبيا منذ عقود من بينها بالخصوص عاملا الإهمال وسوء التصرف من قبل الحكومات المتعاقبة.
◙ الأزمة الإنسانية عززت قناعة الكثيرين بأن بلادهم لن تتجاوز آلامها ما دامت المنظومة السياسية على حالها
هذه العوامل جعلت ليبيا غير قادرة على إدارة أي أزمة قد تنتج عن كارثة طبيعية خطيرة.
قبل هبوب العاصفة – الإعصار غابت عن أذهان المسؤولين سلسلة الإجراءات الوقائية التي كان يمكن أن تجنب البلاد خطر الفيضانات العارمة أو على الأقل تخفف من وطأتها.
متابعة الأحوال الجوية في محيط ليبيا كانت من جملة الحلقات المفقودة. في هذا المجال قال بيتر تالاس الأمين العام للمنظمة العالمية للأرصاد الجوية “لم تكن خدمة الأرصاد في ليبيا تشتغل كما ينبغي نظرا لحالة الفوضى التي تعم الإدارة”.
كانت تعليمات الهيئات الرسمية متناقضة. طلبت السلطات العسكرية والمدنية من المواطنين في شرق ليبيا قبل العاصفة مغادرة درنة. ولكنها طلبت منهم في وقت آخر البقاء في بيوتهم، مما خلف اضطرابا في أذهان الناس وزادهم ترددا في الإصغاء للتعليمات.
والأخطر من ذلك هو أن السلطات لم تصدر تحذيرات في الإبان من احتمال انهيار سدي مدينة درنة اللذين شيدتهما شركة يوغسلافية من مواد طينية في أول السبعينات. بل إن وزارة الموارد المائية طمأنت السكان على أن “السدين في حالة جيدة والأمور تحت السيطرة”، والتي من المفروض أنها كانت تعرف أن ذلك غير صحيح.
فقد كانت دراسة أصدرتها جامعة سبها العام الماضي أشارت إلى ضرورة اتخاذ “إجراءات فورية” من أجل تعهد السدين بالصيانة. وقد أقر ديوان المحاسبة في ليبيا بأن أعمال الصيانة لم يتم إنجازها على السدين رغم تخصيص الاعتمادات اللازمة لذلك سنتي 2012 و2013.
حاولت السلطات في الشرق والغرب الظهور بمظهر الأطراف الحريصة على توحيد الجهود من أجل إغاثة الضحايا. ولكنها لم تستطع إخفاء علامات الانقسام والتجاذبات في ما بينها. لا غرابة في ذلك في بلاد لم تخرج أبدا من حالة التشظي والتناحر منذ سقوط نظام معمر القذافي سنة 2011.
من ذلك أن رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي أثار حفيظة الجيش الوطني الليبي المسيطر على معظم الشرق الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر عندما صرح بأن ليبيا تحتاج إلى “مؤسسات موحدة للإشراف على الأزمة”.
كما نسبت وكالة رويترز إلى مصدر في إحدى المنظمات الإنسانية قوله إن السلطات في الشرق الليبي أعاقت تسليم المساعدات القادمة عبر طرابلس. أما رئيس الحكومة المنتهية عهدته عبدالحميد الدبيبة فقد أثار الكثير من الانشغال والريبة عندما صرح من ناحيته خلال مؤتمر صحفي أن “هناك الكثير من عروض المساعدة، ولكننا لن نقبل إلا بالمساعدات الضرورية”.
غير أنه كان من الواضح بشكل عام وبالرغم من المؤشرات على سوء التنظيم والتلعثم في اتخاذ القرار أن المعسكرين المتنافسين اتخذا قرارا تكتيكيا بتجميد خلافاتهما، في الوقت الذي كان فيه المتطوعون من كافة أرجاء ليبيا قد وحدوا جهودهم من أجل مساعدة المنكوبين.
خلقت الأطراف الحاكمة في الشرق والغرب انطباعا بأنه لم يعد أمامها من خيار سوى توحيد صفوفها أمام التحديات المشتركة التي تواجهها ومنها بالخصوص التداعيات التي قد تحصل جراء الضغوطات الشعبية التي تدفع نحو محاسبة المسؤولين عن الكارثة.
◙ هناك اليوم خشية من أن يرسخ الفرقاء أقدامهم في الحكم من على جانبي الصدع الذي يفصلهم وأن يؤجلوا صراعاتهم إلى حين تجاوز ضغوطات الشارع
في نفس هذا السياق لم يجد الطرفان المتنافسان بدا من الدعوة إلى إجراء تحقيق في ملابسات الكارثة. كان كل طرف يحاول النأي بنفسه عن الاتهامات بالتراخي والإهمال الموجهة لكل السياسيين أو على الأقل ربح الوقت.
ولكن العديد من المصادر في ليبيا تقول إنه لا شيء سوى إجراء تحقيق دولي رفيع المستوى يمكن أن تكون له مصداقية لدى الناس، وخاصة باعتبار التضييقات التي وضعتها حكومة الدبيبة منذ مارس الماضي على عمل منظمات المجتمع المدني.
يبدو أن الشارع الليبي توصل إلى قناعات على صعيد تحديد المسؤوليات. تجلى ذلك من خلال الشعارات المرفوعة خلال المظاهرات التي اندلعت في الأيام القليلة الماضية في درنة والتي طالبت بمحاسبة المسؤولين المتورطين في الإهمال.
كما كانت المنصات الإلكترونية تعج بردود الفعل المنتقدة للمسؤولين. ومن بين الكتابات المؤثرة على منصة فيسبوك ما نشره الكاتب الليبي سالم الهنداوي. هذا الكاتب، الذي كان تحدث عن هنات السدود وخزانات المياه في درنة منذ التسعينات، قال إن “المسؤول عن موت العائلات بالجملة ليس الإعصار وإنما الحكومات التي يجب أن تحاسب على جريمتها في قتل الآلاف”.
وكتب كلاما آخر استشهدت به العديد من المقالات الصحفية قال فيه “مررت بدرنة فلم أجدها. ولكني رأيت القاتل يختفي خلف دانيال، ويهرب”.
ويتملّك الليبيين عامة اليوم شعورٌ بأن الانكباب على دراسة الانعكاسات الممكنة لتغير المناخ على بلادهم أو البحث عن تشييد شبكة عصرية للبنى التحتية لم يكونا أبدا ضمن أولويات السياسيين.
جذور إهمال البنية التحتية في ليبيا تعود إلى فترة حكم العقيد القذافي حينما كانت شواهد الولاء أهم من الكفاءة وكان تفكيك مؤسسات الدولة هو النتيجة.
لم تكن الأوضاع بعد 2011 أفضل. فقد ركز أفراد الطبقة السياسية المنقسمة على نفسها جهودهم على تعزيز مصادر الدعم التي يمكن أن تقوي مركزهم ونفوذهم ويشمل ذلك الميليشيات المسلحة والقوى الأجنبية المختلفة.
وانهمكت الأطراف المؤثرة شرقا وغربا في صراعات مستمرة لم تهدأ نسبيا إلا سنة 2020 حين تم التوصل إلى هدنة هشة. ومن جهة أخرى تفاقم الوضع الأمني، وخاصة في درنة، نتيجة تغلغل التنظيمات المتطرفة في مناطق عدة من البلاد إلى أن تم دحر قوات داعش في 2019.
خلال أعوام طويلة بقي شبح التقسيم يخيم على ليبيا في غياب أي احتمال كي يتوصل الفرقاء إلى اتفاقات من شأنها أن تمهد الطريق أمام إرساء الأسس اللازمة لقيام مؤسسات قادرة على أداء الوظائف التي تحتاجها الدولة ومنها إنجاز تصورات متكاملة لتنمية البلاد وإقامة شبكات للبنى التحتية فيها. وتحولت مداخيل الدولة المتأتية من النفط إلى غنائم توزع على التشكيلات السياسية والميليشيات حسب الولاءات.
وفي الوقت الذي أعاقوا فيه تنظيم انتخابات حرة وشفافة في آجالها استغل الساسة ثروات البلاد لأغراض الرشوة والفساد مما قوض سمعة البلاد ومساراتها السياسية في الداخل والخارج. هذه السلوكيات جعلت بعض الأطراف الأجنبية خلال الأيام الأخيرة لا تخفي خشيتها من أن تذهب المساعدات المالية الموجهة إلى ليبيا سدى نتيجة الفساد المستشري في البلاد.
بقيت ليبيا في مهب التأثيرات الخارجية منذ التدخل العسكري المسنود من قبل الحلف الأطلسي سنة 2011. منذ ذلك التاريخ ظل الغرب ينظر إلى ليبيا من منظور النفط والأمن فقط.
اقرأ أيضا:
الساسة أنفسهم ساهموا في جعل بلادهم محل تنافس بين القوى الإقليمية والأجنبية. ولم تشكل الفترة الأخيرة التي تلت عاصفة دانيال استثناء. فقد أظهرت جهود الإغاثة استعار التنافس بين مصر، الداعم التقليدي للمشير حفتر، وتركيا، مصدر الدعم الرئيسي لحكومة طرابلس.
في هذا السياق صرح عضو لجنة الدفاع والأمن القومي بمجلس النواب المصري اللواء يحيى كدواني لصحيفة “العرب” اللندنية “تركيا لا تزال لها أطماع في ليبيا، وتبحث عن أي فرصة للنفاذ منها نحو تحقيق أحلامها، ومصر ليست بعيدة عن متابعة ذلك، ومن الطبيعي أن تتحرك القاهرة وتقدم مساعدات ضخمة جراء الأزمة الإنسانية.. لغلق ثغرة قد تستغلها أنقرة، وتسعى للتسلل إلى شرق ليبيا بحجة إنقاذ الموقف وتحسين حياة المواطنين الليبيين هناك”.
إن كان هناك بصيص من الأمل وسط المأساة الليبية الراهنة فهو أن الكارثة جمعت الليبيين من مختلف جهات البلاد على قلب رجل واحد.
وعززت الأزمة الإنسانية قناعة الكثيرين بأن بلادهم لن تتجاوز آلامها ما دامت المنظومة السياسية على حالها.
يبقى أن هناك اليوم خشية من أن يرسخ الفرقاء أقدامهم في الحكم من على جانبي الصدع الذي يفصلهم وأن يؤجلوا صراعاتهم إلى حين تجاوز ضغوطات الشارع.
وإن استتب لهم الأمر بعد ذلك دون أن يتغير شيء في ليبيا فسوف يكون ذلك بمثابة كارثة جديدة ستواصل استنزاف طاقات البلاد حتى بعد أن تمّحي آثار العاصفة.