عندما يدفع الدبيبة إلى إعادة إنتاج الأزمة في ليبيا

هل ستتجه ليبيا إلى إعادة إنتاج أزمتها؟ كل المؤشرات تدل على ذلك لاسيما أن الدبيبة مصرّ على الاستمرار في ممارسة لعبة الحكم ويبدو أنها أعجبته ويريد الاستمرار فيها.
الخميس 2022/03/03
هل ستتجه ليبيا إلى إعادة إنتاج أزمتها؟

عندما ترتفع أصوات حكماء ليبيا محذرة من عودة ليبيا إلى مربع الفوضى والانقسام، تعلو نبرات المراهنين على ديمومة الصراع لتقطع الطريق أمام أي محاولة لإيجاد الحل المناسب للصراع الذي اندلع منذ أكثر من عشر سنوات، ولا يزال قائما إلى اليوم، وقد يستمر لاحقا، فما دامت هناك أطماع شخصية وفئوية، ومصالح حزبية ومناطقية، وحسابات عائلية وقبلية وجهوية ترتفع فوق مصلحة الوطن والشعب، فإن الخطر سيبقى محدقا بالبلاد وبالسلم الأهلي إلى ما لا نهاية.

يصرّ المهندس عبدالحميد الدبيبة على البقاء في منصبه كرئيس للحكومة، مهما كان الثمن والتكاليف، واستطاع خلال الأسابيع الماضية أن يجيّش من حوله تيّارا قويا بمرجعيات جهوية وإقليمية وميليشياوية واجتماعية ومالية واقتصادية وإعلامية، وأن يستعمل مقدرات الدولة دون حدود لتكريس نفسه ودوره ومكانته باعتباره الزعيم المنقذ والقائد الملهم والزعيم الحاني على شعبه والحاكم الذي يصرف على مواطنيه بلا حساب، من خزينة الدولة طبعا، وبدعم مباشر من الحليف القوي الصدّيق الكبير محافظ المصرف المركزي الذي يعتبر أحد أهم عناصر معركة إبقاء الوضع على ما هو عليه.

يستمر الدبيبة في الترويج لمشروع تنظيم الانتخابات التشريعية في يونيو القادم مقابل تأجيل الانتخابات الرئاسية إلى أجل غير مسمى، ويقدم نفسه للمجتمعين الدولي والمحلي على أنه الراعي الأول لإرادة الشعب والمدافع عن مبادئ الديمقراطية والتعددية والدولة المدنية والاختيار الشعبي الحر، وتدار من حوله حملات إعلامية واسعة وشبكة علاقات عامة للتأكيد على ذلك. ومن الطبيعي أن تصرف الملايين بشكل دوري على مشروع تلميع صورة القائد والزعيم الديمقراطي والترويج لها على أنها البديل المقنع عن كل الناشطين على الساحة السياسية من قائمين وسابقين ولاحقين.

ويتعهد الدبيبة رسميا بأنه لن يترشح لانتخابات يونيو، وهذا أمر محسوم ومعلوم، فمن المؤكد أنه لن يترشح لعضوية مجلس النواب، وليس من أهدافه أن يكون نائبا أو حتى رئيسا للبرلمان، وإنما سيستفيد من منصبه لضمان فوز قائمات انتخابية فردية يدعمها من وراء الستار أو من تحت الطاولة، ويوفر لها الإمكانيات المالية الباذخة والدعم الإعلامي الواسع لتخترق صفوف القواعد الناخبة، ولتضع يدها على المجلس القادم من خلال أغلبية سيكون من أهم أولوياتها الدفع به لتشكيل الحكومة القادمة في إطار من الشرعية الواسعة.

ينشط الدبيبة في سياق مشروع مدعوم من قوى عدة في غرب البلاد ومن بينها الإخوان وأمراء الحرب والزعماء الجهويون والإقليميون يتمحور حول التشريع لدستور للبلاد قبل تنظيم الاستحقاق الرئاسي، وسيكون من أبرز مضامينه حرمان الليبيين من انتخاب رئيس للدولة من خلال الاقتراع الحر والمباشر، وإنما اعتماد النظام البرلماني وانتخاب رئيس الدولة من داخل مجلس النواب كما هو الشأن في دول عدة أخرى، على أن يكون هذا الرئيس دون صلاحيات تذكر، وإنما يباشر مهمته في ذات الإطار الذي يتحرك ضمنه رئيس المجلس الرئاسي محمد يونس المنفّي.

من يتأمل المشهد جيدا يدرك من هي الأطراف التي تقف وراء الدبيبة وتدفع به إلى التمسك برئاسة الحكومة ورفض قرارات وإجراءات مجلس النواب

يطمح الدبيبة إلى البقاء في منصبه بشكل مؤقت إلى حين السيطرة على مقاليد السلطة بشكل دائم. وهو بذلك يؤسس لصورة الدكتاتور الطامح لبسط نفوذه بالكامل على البلاد، وفي ذات الوقت، للحقيقة التي يعرفها المقربون منه، وهي أن الرجل لا يمثّل نفسه، وإنما هو واجهة لمشروع كبير تتوافق فيه القوى المؤثرة بالداخل والخارج على الهيمنة على مقدرات ليبيا خلال المرحلة القادمة بالتعاون بين أخطبوط الفساد في مراكز النفوذ الداخلي والإقليمي والشركات العابرة للقارات، ومن كان لعابهم يسيل خلال العقود الماضية أمام الرغبة في وضع اليد على ليبيا باعتبارها غنيمة ولقمة سائغة، إلى أن وجدوا الفرصة الملائمة لتحقيق أطماعهم بعد العام 2011.

ومن يتأمل المشهد جيدا يدرك من هي الأطراف التي تقف وراء الدبيبة وتدفع به إلى التمسك برئاسة الحكومة ورفض قرارات وإجراءات مجلس النواب، والتي تتستر على ملفات الفساد المتعلقة بملتقى الحوار السياسي والرشاوى المدفوعة لتحديد مسارات السلطة التنفيذية، وكذلك الجوانب التفصيلية المهمة المتعلقة بمصرف ليبيا المركزي، وحجم المخالفات الصريحة للقانون والنهب الممنهج للمال العام، وصولا إلى تحديد ظروف وصول لوبيات وشخصيات متهمة بالفساد في ما قبل وبعد 2011 إلى الحكم ووضع يدها على مفاتيح خزينة الدولة بتوافق مع الحسيب والرقيب.

ليس خافيا أن الدبيبة نجح في اختراق مجلس الدولة الاستشاري ليدفع به إلى الانقلاب على اتفاقه الحاصل مع مجلس النواب، وفي التأثير على نوايا التصويت لدى عدد من أعضاء البرلمان الذي يعاني بدوره من حالة ترهّل وعجز، وفي التحريض على معارضيه ومن يقفون في صف مجلس النواب، واستطاع أن يحوّل حكومته من سلطة منتهية الولاية وفاقدة للشرعية منذ الرابع والعشرين من ديسمبر الماضي إلى سلطة تزعم الدفاع عن الشرعية القانونية والدستورية، وتدعي أنها المؤهلة دون غيرها لتحقيق السلام الشامل والوصول بإرادة الليبيين إلى التحقق بانتخابات حرة وتعددية ونزيهة.

يقود الدبيبة وفريقه اليوم معركة طاحنة ضد مجلس النواب ورئيس الحكومة المكلف فتحي باشاغا وفريقه السياسي وضد قيادة الجيش وكل من يدعي الاتجاه نحو استبدال حكومة الوحدة الوطنية بحكومة دعم الاستقرار، وقد شهدت الأيام الماضية بروز غطاء ميليشياوي لتطلعات الدبيبة، وخرجت إلى العلن أصوات تتحدث عن نذر مواجهة مسلحة، وتؤكد أن لا حكومة لليبيا خلال المرحلة القادمة إلا حكومة الدبيبة، وهو ما يطرح الكثير من التحديات الكبرى على المشهد العام، فرئيس الحكومة سيعتبر مغتصبا للسلطة بالعاصمة والمنطقة الغربية بحكم الأمر الواقع المدعوم بسلاح الجماعات المسلحة وفي سياق مشروع جهوي وإقليمي ودولي يهدف إلى نهب مقدرات الدولة، وبقية الفرقاء سيعتبرون ذلك تجاوزا للقانون وللتوازنات السياسية وعودة إلى الوراء وإلى نموذج حكومة فايز السراج التي جاءت من الصخيرات لتحكم لمدة عامين فاستمرت لمدة ست سنوات.

هل ستتجه ليبيا إلى إعادة إنتاج أزمتها؟ إلى حد الآن كل المؤشرات تدل على ذلك، لاسيما أن الدبيبة مصرّ على الاستمرار في ممارسة لعبة الحكم التي جاء ليجربها ضمن إطار معين بمزادات ملتقى الحوار السياسي، ويبدو أنها أعجبته ويريد الاستمرار فيها إلى ما لا نهاية، وهو ما يرفضه آخرون، ويرون فيه عبثا لا يمكن أن يتواصل.

9