عندما تكشّر حكومة الدبيبة عن أنيابها

أثبت رئيس الحكومة الليبية المنتهية ولايتها عبدالحميد الدبيبة أنه لا يهتم لشيء قدر اهتمامه بالبقاء في منصبه الذي تمكن من الوصول إليه في فبراير 2021 في ظروف غامضة شابها الكثير من الشبهات وطالها العديد من الاتهامات، أهمها تلك المتعلقة بالفساد وشراء الذمم.
ولعل محاولة الدبيبة منع مجلس الدولة الاستشاري من الاجتماع بالاعتماد على سطوة واحدة من الميليشيات الموالية له خير دليل على نواياه التي وصفتها المستشارة السابقة للأمين العام للأمم المتحدة والدبلوماسية الأميركية المخضرمة ستيفاني ويليامز بالسيئة، في إشارة منها إلى دوره في إلغاء الانتخابات التي كان من المنتظر تنظيمها في الرابع والعشرين من ديسمبر الماضي، وذلك بإصراره على الترشح للاستحقاق الرئاسي متجاهلا التزامه الذي وقعه قبل خوضه سباق المنافسة على رئاسة الحكومة في ملتقى الحوار بجنيف.
كان هدف الدبيبة من وراء العمل على منع مجلس الدولة من الاجتماع هو الحؤول دون تنفيذ الاتفاق الحاصل بين رئيسه خالد المشري ورئيس مجلس النواب عقيلة صالح بخصوص السعي لتشكيل سلطة تنفيذية موحدة، وبالتالي إيجاد حكومة من خارج سياق الانقسام الحاصل بين حكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها وحكومة دعم الاستقرار المنبثقة عن مجلس النواب برئاسة فتحي باشاغا، وكذلك دون تنفيذ اتفاق الرباط المعلن في أكتوبر الماضي امتدادا لاتفاق أبوزنيقة الموقع في يناير 2021 بخصوص التعيينات في المناصب القيادية بالمؤسسات السياسية وعلى رأسها منصب محافظ مصرف ليبيا المركزي، الذي لا يزال يشغله الصدّيق الكبير منذ أكثر من عشر سنوات، بحكم أقرب إلى سلطة الأمر الواقع في تجاوزها لسلطة القانون وموقف الشارع وقرارات البرلمان.
◘ من يتحدثون عن نذر حرب قد يدفع إليها الدبيبة خلال الأيام القادمة لا يهذون ولا هم يتوهمون، وإنما ينطلقون من مؤشرات واقعية أهمها أن الممسكين حاليا بمقاليد سلطة الأمر الواقع في طرابلس يرون أنهم في صراع وجودي لا تنازل عنه
هدف آخر كان يهم الدبيبة أن يحققه وهو الوقوف دون التوصل إلى توافق بين مجلسي النواب والدولة على القاعدة الدستورية التي يمكن أن تفسح المجال لتنظيم انتخابات يريدها الليبيون رئاسية وتشريعية، ويريدها الغربيون تشريعية فقط، ولا يريد لها رئيس حكومة الأمر الواقع في طرابلس أن تنتظم إلا إذا تمتع بضمانات كافية تمكنه من الفوز في أي استحقاق قادم وبالتالي من البقاء في مكتبه بطريق السكة.
رئيس مجلس الدولة خالد المشري تقدم ببلاغ رسمي للنائب العام ضد رئيس الحكومة عبدالحميد الدبيبة، ووزير الدولة للاتصال والشؤون السياسية وليد اللافي المعروف بدوره الأساسي في تلميع سلطة الأمر الواقع والترويج لفكرة تأبيدها وتصنيع مواقفها المتناقضة، ومستشار الأمن القومي إبراهيم الدبيبة الذي يعتبر الحاكم الفعلي في طرابلس وصاحب القرارات الحاسمة في كل المجالات ويعرفه الليبيون جيدا ويتابعون أخباره اليومية وجولاته وصولاته كأهم صانع قرار في طرابلس.
لم يكن مفاجئا أن ما تسمى بقوة حماية الدستور المشكلة من عدة ميليشيات موالية للدبيبة هي التي اتجهت لمنع مجلس الدولة من عقد جلسته في مقره المعتاد بفندق المهاري. علينا هنا أن نذكر أن عماد الطرابلسي الذي يعتبر أحد أهم أمراء الحرب وقادة الميليشيات في البلاد حظي منذ أسبوع بمنصب وزير للداخلية تحت مظلة مستشار الأمن القومي، والهدف من ذلك الاستفادة من خبرته الواسعة في مجال اختصاصه.
جاء في بلاغ المشري للنائب العام أن هذا الفعل يعد منعا لمجلس الدولة من ممارسة مهامه، وأنه إعمالا بنص المادة (201) من قانون العقوبات الليبي يعاقب بالإعدام كل من دبر أو اشترك في أي عملية مسلحة ضد سلطات الدولة ولو كانت الأسلحة المعدة لذلك في مستودعه ما دامت لغرض الاستعمال، كما أن منع المجلس من عقد جلسته يعد فعلا متعمدا القصد منه عرقلة سير العملية السياسية والوصول إلى الانتخابات وإنهاء المراحل والحكومات الانتقالية، في الوقت الذي تحتاج فيه ليبيا إلى الاستقرار والتهدئة والوصول إلى الانتخابات.
كان على المشري أن يقف هذا الموقف خلال السنوات الماضية عندما تم اختراق القانون من قبل الميليشيات والجماعات المسلحة، وعندما تم اقتحام المدن كبني وليد وورشفانة والعجيلات وغيرها، وعندما تم استهداف المدنيين في العاصمة طرابلس. هناك المئات من الجرائم التي ارتكبتها الميليشيات باسم الدفاع عن مبادئ ثورة فبراير وتحت هتافات التكبير ولم يتجرأ المشري على إدانتها ولم يدعُ النيابة العامة إلى التحقيق فيها.
بيّن المشري أن جلسة الاثنين كانت مخصصة لاستكمال التصويت حول القاعدة الدستورية والمناصب السيادية، وقال إن القوة المحاصرة أبلغتهم أنهم تلقوا تعليمات مباشرة من الدبيبة، بصفته وزيرا للدفاع، مؤكدا أن موقفه من حكومة الوحدة واضح باعتبارها حكومة ميليشياوية تريد السيطرة وفرض الرأي بالقوة، فحكومة الدبيبة وفق ما ورد على لسانه، عملت على منع تمكين مجلس الدولة من الحصول على قاعات بعدد من الفنادق لعقد الجلسة، مشيرًا إلى أن ذلك يعد سابقة لرئيس حكومة منذ 2011 لمنع مجلس تشريعي من الانعقاد.
هناك أطراف داخلية وأخرى خارجية انتقدت الحادثة، وهي في الواقع متورطة في دعم الدبيبة وتحويله إلى دكتاتور صاعد، فقط لأنها ترى فيه الأقدر على خدمة مصالحها وربما الأضعف الذي يبدي استعدادا لتنفيذ الأوامر، فالمهم بالنسبة إليه هو أن يجد الدعم للبقاء في الحكم إلى ما لا نهاية. قبل أيام وجه رسائل مغازلة إلى الرئيسين التونسي قيس سعيد والمصري عبدالفتاح السيسي لتجاوز حالة البرود في علاقاتهما مع حكومته، وفعل ذلك مع بقية دول الجوار لتأمين موقعه.
◘ كان هدف الدبيبة من وراء العمل على منع مجلس الدولة من الاجتماع هو الحؤول دون تنفيذ الاتفاق الحاصل بين رئيسه خالد المشري ورئيس مجلس النواب عقيلة صالح بخصوص السعي لتشكيل سلطة تنفيذية موحدة
ولا شك أن المشري يدرك أن تصرفات الدبيبة هي الأخطر حاليا على إمكانية التوصل إلى توافق سياسي أو إلى مصالحة وطنية، ومما يزيد من خطورتها وضعه اليد على مصرف ليبيا المركزي وتحويل المال العام إلى سلطة بغاية البقاء في السلطة. ويعتقد الكثيرون أن الفساد الذي تعرفه ليبيا حاليا لم يسبق أن عرفت مثله، وما تسمى “عمولات الحاج” هي العملة الرائجة حاليا فيما يوجد بين أيدي المضاربين المستندين إلى الحكومة من الأموال ما يتجاوز الأموال التي تحتكم عليها البنوك والمؤسسات المصرفية.
لكن مجلس الدولة طالما كان داعما موضوعيا لتطلعات الدبيبة وفريقه، وذلك في سياق حسابات مصلحية بأبعاد انتهازية جهوية ومناطقية وفئوية وعقائدية وحزبية، ووفق ارتباطات إقليمية ودولية، وساهم بالتالي في تضخيم مشروع الدبيبة الشخصي والأسري والفئوي إلى أن تحول إلى حالة استبدادية مستعدة لاستعمال كل الوسائل وتجيير كل الآليات والإمكانيات لخدمة دكتاتوريتها الناشئة.
كل المؤشرات تقول إن الدبيبة غير مستعد للتداول السلمي على السلطة، حتى لو توافق مجلسا النواب والدولة على تأليف حكومة جديدة، وتؤكد أنه مستعد للدفع بالبلاد إلى أتون الحرب الأهلية من جديد. هناك من يرون أن الدبيبة ليس سوى واجهة للقوى الحاكمة فعليا في البلاد والتي تعتبر أن ليبيا أضحت بالنسبة إليها غنيمة حرب لا يمكن التنازل عنها مهما كان الثمن، وتلك القوى مرتبطة بأجندات في الداخل والخارج، ولكنها مرتبطة أكثر بمصالحها الخاصة إلى درجة باتت تزكم الأنوف.
ما حدث يوم الرابع عشر من نوفمبر 2022 ليس غريبا ولا مستغربا، ولا هو شاذ عن القاعدة المعمول بها حاليا في طرابلس، ومن يتحدثون عن نذر حرب قد يدفع إليها الدبيبة خلال الأيام القادمة لا يهذون ولا هم يتوهمون، وإنما ينطلقون من مؤشرات واقعية أهمها أن الممسكين حاليا بمقاليد سلطة الأمر الواقع في طرابلس يرون أنهم في صراع وجودي لا تنازل عنه، ويعتقدون أن تملكهم لمفاتيح مصرف ليبيا وتمكنهم من مفردات الشعبوية المقيتة وقدرتهم على شراء المواقف والولاءات واعتماد دبلوماسية الصفقات، تكفي لتبرير أخطائهم وخطاياهم، وتسمح لهم بالتمسك بطموحهم في البقاء في الحكم سنوات أخرى.