عمر عرشان طفل مغربي تحدى إعاقته وحلّق بمطبخه في سماء النجومية

ليس سهلا أن تكون معاقا في محيط اجتماعي محبط ومليء بالسلبية، بيئة اجتماعية صعبة تؤمن بالقوي ولا تعير للضعيف أي اهتمام فما بالك حين يكون المعاق طفلا؟
لكن اللافت في قصة الطفل المغربي عمر عرشان أنها تخالف القاعدة في جوهرها الإنساني وجانبها الشخصي المتعلق بالأبوين بشكل كبير، التحدي مزدوج اشترك فيه كل من الطفل والأم، والأكيد أن الطفل استمد قوة التحدي من الوالدة التي احتضنت طفلها لأول مرة بفرحة وشوق وحنان وآمال كبيرة في مستقبل مشرق لهذا الطفل، لكن كل تلك الآمال والأحلام اصطدمت بواقع طبي يقول إن عرشان لن يسير على قدميه، وسيبقى مقعدا إلى الأبد، فقبل أن يتم عامه الأول اكتشفت والدته أنه مصاب بمرض نادر يسمّى "الميوباتيا"، وهو مرض يصيب العضلات بالضمور.
الخبر السار من هذا النموذج الإنساني المشترك بين الطفل المعاق والأب والأم، هو أن هناك العديد من الطرق التي يمكنك من خلالها إحداث فرق دون تغيير حياتك أو إرباك نفسك وعائلتك، طريقة تعامل الأم مع ولدها المعاق كانت تتضمن الكثير من الصبر وتجنب الشفقة، في حين أنه من الصعب أحيانا تخيل التحديات التي يمر بها ذلك الطفل، إلا أن التعاطف لا يساعد، بل يمكن أن يعزز الإحباط ومشاعر العزلة.
حياة محفوفة بالصعوبات
كان الأبوان قدوة للإدماج، بحثا معا عن طرق لإشراك طفلهما في الأنشطة التي يحب لتلبية احتياجاته، فعندما تكون والدا لطفل معاق يتم تضخيم جوانب مختلفة من عاطفة الأبوة والأمومة، مواقف عديدة في هذه الحالة تتطلب الحنكة والدعم وكميات هائلة من الوقت والصبر، فالرحلات إلى الطبيب متكررة ومكلفة وتستغرق وقتا طويلا ومحفوفة بالقلق، ومن المحتمل أن تؤدي جولات التسوق الاستكشافية إلى أعباء حسية وعاطفية لكل العائلة.
هناك الكثير مما يجب التفكير فيه والقلق بشأنه والتخطيط له وإدارته بخصوص شؤون الابن المعاق، فمن الأهمية بمكان أن تعتني الأم والأب بنفسيهما جيدا، كي يشحنا معا القوة والطاقة لتحمل احتياجات ابنهما والذي يحتاج الكثير من الرعاية، وقد كان ضمور العضلات حافزا له للتفوق في دراسته، والتحدث بثلاث لغات هي العربية والفرنسية والإنجليزية، ومن ثم خلق عالم خاص به داخل عوالم التواصل الاجتماعي ليقدم محتوى مقبولا في عالم الطبخ المغربي والعالمي على اليوتيوب.
عرشان الذي ولد عام 2005 كان محظوظا بعد أن قرر والده تحمّل ستة عشر عاما دون أولاد آخرين، لكي يستطيعوا التعامل مع إعاقته بطريقة أكثر فعالية وإنتاجية، فكبر مع هذا المرض الذي أفقده القدرة على تحريك أطرافه بيسر كحال أقرانه، وأصبح الكرسي المتحرك وسيلته الضرورية للتنقل، وعناية والدته وقوة إرادتها ساعدتاه على التأقلم مع هذا المرض فصنع منه فرصة لولادة جديدة عنوانها التحدي والإيجابية، فهو يعترف بأن أكبر داعم له في حياته هو والدته.
◙ ضمور العضلات كان حافزا لعرشان للتفوق في دراسته، وإتقان ثلاث لغات وخلق عالم خاص به داخل عوالم التواصل الاجتماعي ليقدم محتوى مقبولا في عالم الطبخ على اليوتيوب
ربما لم يكن عرشان في البدايات الأولى على دراية بالحواجب المرتفعة والنظرات المتبادلة سواء داخل العائلة أو الحي أو الشارع، إلا أن الوالدين بالتأكيد كانا دعامة أساسية، وعلى الرغم من صعوبة التعامل مع التعصب الأعمى من طرف الغرباء، غير أن والدته علمته بالقول والإيماءة أن يستخدم الطاقة اللازمة للتعامل مع نظرات الغرباء، ومخاوف المعلمين.
عندما تنمّر عليه أحد الأطفال في المدرسة وخاطبه بالقول "يا معاق"، عاد إلى أمه يبكي، قالت له "عندما يقول لك ذلك مرة أخرى أشكره، وقل له: الحمد لله أتعيبُ على خلق الخالق؟" ومنذ ذلك اليوم، أدرك معنى كلمة الاختلاف، وأن الله خلقنا مختلفين. فصار يقول "اختلافي مميز وجميل، وأنا سعيد به والحمد لله".
نظرا لأنه لا يمكن لأحد التنبؤ بالمستقبل، يحتاج العديد من الآباء إلى أذن مستمعة واستجابات إيجابية عندما يشعرون بالتوتر بشأن اختياراتهم وما سيحمله المستقبل لأطفالهم، لكن أم عمر لم تحتج إلى من يقول لها كوني داعمة وإيجابية لطفلك، إنها حقيقة توصلت إليها وطبقتها، وكانت النتيجة مهمة وتاريخية حين عينت منظمة اليونيسف عرشان سفيرا مناصرا لحقوق الأطفال، تقديرا لجهوده في نشر ثقافة حقوق الطفل.
لا أحد منا يعيش الحياة أكثر من مرة، لذلك نحن جميعا مبتدئون عندما يتعلق الأمر بالتربية، لكن يبدو أن هناك أشخاصا يصنعون فارقا في التعامل مع أطفالهم ذوي الإعاقة على التنقل بين الخيارات المتاحة، ومن حسن حظ عمر الذي رحل عن عمر 16 أنه امتلك إرادة ودعما عائليا على خلاف الكثير من الأطفال المغاربة من ذوي الاحتياجات الخاصة.
حضور عالمي

حاز عرشان على جائزة ماروك ويب أواردز، والتي تُمنح سنويا في المغرب لأفضل الناشطين على شبكات التواصل الاجتماعي باختيار الجمهور، لذلك، عندما حصل عليها كانت لديها مكانة خاصة عنده، بعدما كان في المركز الثاني، واستطاعت والدته أن تجعله يتمسك بالأمل وأخبرته أنه سوف يفوز، هكذا عاش على الأمل، وحملته أمه بنفسها إلى المسرح، لتسلّم الجائزة بنفسه.
وإذا كان طفل ما يعاني من إعاقة، فمن المحتمل أن يكون والداه قد قضيا قدرا كبيرا من الوقت وهما يتألمان متسائلين عما إذا كانا قد تسببا بطريقة ما في إعاقته بفعل الخيارات الطبية أو العلاجية المناسبة. لكن عرشان يشهد لوالده أنه كان معه في كل خطوة، ودائما ما يقول له "نحن فريق مكون من ثلاثة، نتحدى أي مشكلة أو عائق معا، ونتكيف على أي وضع معا". ليس هناك أكثر من هكذا دعم.
عانى الأبوان في سبيل إيجاد مدرسة تقبل وضعية طفلهما، ووالدته تأسفت لانعدام ثقافة العناية والاهتمام بالأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة بهذا المجتمع، ناضلت كثيرا لكي تقبله مؤسسات تعليمية، لكن هذه الأخيرة تذرّعت بوضعيته الخاصة، وفي النهاية تم تسجيله في مدرسة أميركية بالدار البيضاء.
تزداد التكاليف النموذجية لتربية الطفل المعوّق، إذ يجب أن تكون الأسرة متعددة الدخل قادرة على كسب ما يكفي من المال لتعيش بشكل مريح، ولكن هذا ليس هو الواقع دائما، والعديد من الأسر يقودها أحد الوالدين، ينتهي الأمر بالعديد من آباء الأطفال المعوقين إلى تقليص ساعات عملهم ليكونوا متاحين لأطفالهم، وبالتالي تقليل دخلهم وهم في أمس الحاجة إليه، وهو ما عاشته والدة عمر، بعدما تحولت فرحتها وفرحة والده بمولودهما الأول إلى صدمة، فقررت مغادرة عملها، رغم أنها كانت في حاجة إلى المال، وأسست شركة صغيرة لصناعة الحلوى، لكي تظل بجانب ولدها وتدعمه.
◙ التكاليف النموذجية لتربية الطفل المعوّق باهظة جدا، إذ يجب أن تكون الأسرة متعددة الدخل، ولكن أحيانا ينتهي الأمر بالآباء إلى تقليص ساعات عملهم ليكونوا متاحين لأطفالهم
بالنسبة لأولياء أمور الأطفال المعاقين مثل أبوي عرشان، فإن توظيف جليسة أطفال في المغرب ليس بتلك السهولة، فبعض الإعاقات تتطلب جليسات أطفال ذوات قدرات متخصصة، يمكن أن تتراوح من التدريب الطبي إلى الخبرة في الإصابات العصبية، وهؤلاء ليس فقط يصعب العثور عليهن، ولكنهن يتقاضين ضعف أو ثلاثة أضعاف السعر الجاري.
كان تحريك أطرافه بشكل يومي وروتيني ضروريا، ففكرت أمّه في رياضة الفروسية أو الرسم، وغيرها من الأشياء المسلية، كما كانت أيضا تصحبه إلى المطبخ لمساعدتها في العجين، وهكذا اكتشف ولعه بالمطبخ والوصفات المختلفة نتيجة مراقبته لما تقوم به الوالدة، وطور مهاراته في الطبخ بتتبع الجديد في المطبخ العالمي عبر الإنترنت مضيفا إليها لمسة المطبخ المغربي، وكان السوشي الياباني طبقه المفضل.
معاناة عرشان مع مرض "الميوباتيا" أو "التلف العضلي" الذي تسبب له في عدم الحركة إلا بواسطة كرسي متحرك، لم تحد من طموحه وإشعاعه، بل كانت ابتسامته وروحه الإيجابية والمرحة حاضرتين أثناء حديثه أو أثناء تحضيره للعديد من المأكولات، وحتى السفير الأميركي السابق دوايت بوش حضّر معه أكلة الرفيسة الشعبية.
التأثير العاطفي هائل وقد يشمل الخوف والقلق بشأن آلام الطفل ومعاناته ومستقبله، لكن والدة من بات يُعرف بـ"الشيف عمر" حرصت على مساعدة ابنها على القيام بأنشطة حركية، بإدخاله إلى المطبخ كي يساعدها في إعداد الوجبات، وروحه الإيجابية جعلته يقول إنه لا يؤمن بالاستسلام، فتغلب على إعاقته الحركية بالطاقة الإيجابية والابتسامة.
أحلام الطفل
كان عمر يعرف أن مرضه صعب العلاج، لكن إيمانه بغد أفضل جعله يعدل كل مرة من طريقة تفكيره، وكان الطبخ أساسيا في حياته، إلا أنه لم يقتصر على ذلك، بل كان يرى أنه سوف يصبح مدرب كرة قدم، لأنه من عشاق هذه اللعبة، مع أنه يعرف أنه لا يستطيع أن يلعبها بسبب الكرسي المتحرك، ولكن هذا السبب لن يمنعه من التدريب، خاصة أنه أصبح حرفة مستقلة وله أكاديميات في أوروبا.
كان ينوي الجمع بين هواياته في الطبخ وتوقه إلى احتراف تدريب كرة القدم، وأن يفتتح مطعما كبيرا يعلّم فيه لاعبي الفريق الذي يدربه كي يطهوا الطعام بأنفسهم، بحيث يكون صحيا ولذيذا ومغذيا في الوقت نفسه، وكان طموحه أن يقوم بتقديم برنامج طهي تلفزيوني فكاهي، خصوصا بعدما التقى بطباخ الرئيس الفرنسي السابق فرنسوا هولاند، الشيف كيوم كوميز.
طموحات عرشان لم تكن تنتهي، فمرة يحلم بأن يكون مدربا ومرة يقول إنه يريد تقديم برنامج طهي تلفزيوني فكاهي، خصوصا بعدما التقى بطباخ الرئيس الفرنسي السابق فرنسوا هولاند، الشيف كيوم كوميز
وكانت تلك المرأة الاستثنائية تقوم بتصوير فيديوهات حلقات الطبخ، حيث قدم أول وصفة باللغة الفرنسية وعمره لم يتجاوز التاسعة، وبعدما تفاعل الكثيرون مع محتواه أنشأ قناة على اليوتيوب. وكثيرا ما قال عرشان إنه شكّل بصحبة والدته فريقا ناجحا، والذي كان يشتغل خمسة أيام في الأسبوع، يختار الوجبات ويضيف إليها النكهة المغربية، وكان حلمه الذي لم يتحقق بأن يكتب كتابا لوصفات الطعام الخاصة به، لكن قد تتصدى والدته لهذه المهمة، خصوصا وأن هناك مخزونا كبيرا من الوصفات على قناته، التي كان يتابعها أكثر من 150 ألف شخص.
عبء التوتر على آباء ذوي الاحتياجات الخاصة كبير، إذ وجدت دراسة حديثة أن أمهات المراهقين والبالغين المصابين بالتوحّد على سبيل المثال لديهن مستويات من هرمونات التوتر مماثلة للجنود في القتال، لكن أم عمر زرعت في ولدها حماسا وحالة من التشبث بالأمل، فخلق لنفسه هدفا ساميا بأن يوصل رسالة للعالم حافلة بالتفاؤل وحب الحياة والطاقة الإيجابية والابتسامة، وكان يشارك متابعيه تفاصيل حياته، منتظرا منهم أن يمنحوه محبة صادقة ودعما وافرا لكي يستمر.