عمدة أصيلة وخادم جمالها

في كل مكان هو معالي الوزير إلا في أصيلة فهو سي بن عيسى. ابن المدينة المغربية الصغيرة، ولد فيها ولم يفارقها سفيرا ووزيرا. بيته هناك هو عنوانه الدائم، وكل البيوت التي أقام فيها حول العالم هي عناوين الموظف الذي يعرف أنه سيغادر وظيفته يوما ما. عرفته منذ أكثر من ثلاثين سنة فهل كنتُ صديقه؟ يعرفه الآلاف من المفكرين والفنانين والشعراء، كل واحد منهم يعتبره صديقا شخصيا.
لا لشيء إلا لأن محمد بن عيسى كان يهب الجميع ذلك الشعور الاستثنائي.
كل ضيف من ضيوف موسمه السنوي ما إن تطأ قدماه أرض أصيلة حتى ينسى أنه ضيف ليصير واحدا من أبنائها، فيتمنى أن يقيم فيها ما تبقى من حياته.
ذلك ما فعله كثيرون حين اشتروا بيوتا داخل القصبة ليأنسوا إلى صحبة بن عيسى والامتزاج بروائح ونكهات وأصوات السوق ومشاهد البحر التي يتيه بها المرء غزلا.
كان محمد بن عيسى الذي فارقنا عن 88 عاما قبل أيام شابا أبديا. حكايته مع الزمن تشبه حكاية الزمن مع مدينته. لا شيء يشيخ هنا. الناس مثل الحجارة، ينزلق الوقت إلى أسفل الساعة الرملية من غير أن يغير هيئته.
عرف بن عيسى كيف يمزج السياسة بالثقافة أو على الأقل كيف يكتفي بالوجه النضر والمزهر والمتفائل لطرفي معادلة حياته. ذلك ما انعكس على موسم أصيلة الذي لم يشخ وظل مفعما بفتنة ما يتضمنه برنامجه من حوارات وفعاليات مثيرة تميزت بحضور ومساهمة كبار شعراء ومفكري وفناني العالم.
فتح بن عيسى نوافذ مدينته على العالم ومن المؤكد أنه اكتسب الكثير من عادات المدينة التي أكسبها الكثير من عاداته. مدينة تمشي بقدمي ابنها الذي أضفى عليها هالة عالمية غير أنه بقي إلى آخر يوم في حياته لا يرى الحياة ممكنة إلا من خلال هوائها.
محمد بن عيسى سياسي ومثقف استثنائي في عالمنا العربي. من لا شيء صنع حدثا كونيا.
قبل مهرجانها كانت أصيلة قرية صيادين تنام حين تغرب الشمس. فإذا بشوارعها وساحاتها تحمل أسماء كبار شعراء ومفكري وفناني وروائيي العالم الذين حملوا هواءها إلى أعمالهم الأدبية والفنية.
لقد تعرفت هناك على الشاعر والرئيس السنغالي الأسبق ليوبولد سنغور من خلال صديقي الرسام اللبناني عارف الريس الذي كان صديقه. ذلك حدث لا يقع إلا في أصيلة.
المدينة تسمح بذلك كما أن آليات العمل التي اخترعها بن عيسى لم تكن معقدة. في بيته التقيت بكثير من الشخصيات التي كان من الصعب أن ألتقيها في الحياة العادية.
ولو لم يكن بن عيسى شخصية فاتنة وقوية وذات مراس في التعامل مع الأقوياء لما هبط الكثيرون من عليائهم ليكونوا على سويتهم بشرا عاديين.
لقد أكسب بن عيسى مدينته طابعا إنسانيا بحيث صار ضيوفها ينظرون بحسد إلى سكانها.