علي مصطفى المصراتي.. "عقاد ليبيا" الذي عاش الحياة متهكّماً

أيقونة جمعت بين الأدب والسياسة والإعلام.
الثلاثاء 2021/08/17
أبرز رواد الفكر والثقافة والإعلام العرب

هو آخر حبة من عنقود الرواد والتي لا تزال تتنفس عبق الوجود، وهو حالة ليبية وعربية استثنائية في تجربته وعطائه، وفي جمعه بين النضال السياسي والإنتاج الفكري والأدبي والإعلامي وحب الحياة وروح السخرية التي لا تزال تلازمه ليجعل منها أداة للتمسك بالحياة وهو يطرق عامه الخامس والتسعين.

إنه الشيخ علي مصطفى المصراتي الذي عاش حياته بالطول والعرض، وعايش زمن الكبار، وشهد أبرز محطات التاريخ المعاصر لبلاده والمنطقة العربية، وقدم العشرات من الكتب في القصة والتحقيق والدراسة والمقال، وكانت له بصمات واضحة في التاريخ السياسي لبلاده. كما كان من رجال الإعلام المرموقين، وكرّس الجانب الأكبر من حياته مؤلفا ومحققا في تاريخ ليبيا وتراثها وسير أعلامها، حتى أن الأديب المصري الراحل الدكتور مصطفى محمود قال عنه ”لا تستطيع أن تعرف أيّ شيء عن ليبيا دون أن تمر بكتبه“.

المهاجر

عمل المصراتي الفكري والتاريخي يتوازى مع دوره السياسي، فقد نقّب في التاريخ وبحث في سير السابقين، ووثّق الأحداث وسجل شهادات صانعيها، وخاصة في إقليم طرابلس الذي يتحدر منه

 ولد المصراتي في الإسكندرية يوم الثامن عشر من أغسطس عام 1926 داخل أسرة ليبية مهاجرة، وتلقى تعليمه في منطقة بولاق في القاهرة وأكمله في جامعة الأزهر، متحصلاً على الشهادة العالية من كلية أصول الدين العام 1946، ثم شهادة التدريس العالية من كلية اللغة العربية. وتلقى تعليمه على يد كبار علماء الأزهر طوال فترة الدراسة، ثم عمل في مجال التدريس بمدرسة للأقباط في شبرا، وهي مرحلة في حياته كانت مفعمة بالحماس والنشاط حيث شارك في المظاهرات الشعبية التي كانت تطالب بالجلاء عن مصر، واعتقل بعد ذلك في سجن قارة ميدان.

في العام 1948 التحق المصراتي بحزب المؤتمر الوطني الليبي حال تأسيسه على يد الزعيم بشير السعداوي الذي عاد إلى بلاده بعد سنوات غربته، والتي كان قد عمل خلالها مستشارا سياسيا لمؤسس السعودية الملك عبد العزيز آل سعود، وقبل ذلك بعامين كان السعداوي يرافق الملك في زيارة الى القاهرة، وهناك استأذنه في الاستقالة لكي يقوم بالعمل على “تجميع القوى الوطنية الليبية تحت أهداف وراية واحدة”، ليشرع مباشرة في الاتصال بزعماء طرابلس وبرقة مؤكدا لهم ضرورة التخلي عن الخلافات الإقليمية والمحلية في سبيل المصلحة الوطنية العليا مبينا لهم أنه إذا لم يعترف الليبيون في طرابلس وبرقة بالزعامة السنوسية فإن ليبيا لن يتاح لها أن تعود إلى الوجود دولة واحدة، وقد أطلق صرخته المدوية ”لبيك يا وطني“ التي استجاب لها المصراتي بقوة ليصبح واحدا من أبرز الخطباء المفوهين للحزب ومن الناشطين المؤثرين في صفوف الشعب ببلاغته وذكائه في تناول القضايا المصيرية للشعب ولاسيما قضايا الحرية والوحدة وإجلاء القوات الأجنبية، ولكن من عبث الأقدار أن الدولة الناشئة التي حلم بها السعداوي ودافع عنها، حكمت بإبعاده ليظل في المنفى حتى وفاته بمدينة بيروت، بينما بقي المصراتي في طرابلس صوتا مدويا بذات المبادئ التي اعتنقها.

عمره المديد يحفل بالتجارب والعلاقات الهامة واللقاءات التي جمعته مع قادة وزعماء من بينهم بورقيبة وبن بلا، كما ارتبط بصداقات مع العقاد ونجيب محفوظ وأم كلثوم ومحمد عبدالوهاب
عمره المديد يحفل بالتجارب والعلاقات الهامة واللقاءات التي جمعته مع قادة وزعماء من بينهم بورقيبة وبن بلا، كما ارتبط بصداقات مع العقاد ونجيب محفوظ وأم كلثوم ومحمد عبدالوهاب

 كان المصراتي قد قرر العودة نهائيا إلى طرابلس بعد قرار الأمم المتحدة الاعتراف باستقلالها، وكان أول ما شغل باله وفكره، إلى جانب الدور السياسي، هو كيف ينقب في التاريخ ويبحث في سير السابقين، وكيف يوثق الأحداث ويسجل شهادات صانعيها، وخاصة في إقليم طرابلس الذي يتحدر منه، حيث أنه من قبيلة مصراتة التي كان لها سجل ثري في التاريخ السياسي والاجتماعي والثقافي، وأنجبت عددا مهما من رموز النضال ضد الاستعمار.

كانت بدايات التجربة من خلال المقالات التي كان ينشرها في عدد من الصحف والمجلات من بينها ”الأهرام“ المصرية و“الرائد“ و“شعلة الحرية“ و“الشعب“ و“هنا طرابلس“ التي ترأس تحريرها، وفي تلك الأثناء بدأ في إصدار عدد من مؤلفاته ومنها ”أعلام من طرابلس“ و“لمحات أدبية عن ليبيا“ و“إبراهيم الأسطى عمر شاعر من ليبيا“ و“صحافة ليبيا في نصف قرن“ و“غومة فارس الصحراء“ وتم نشرها في بيروت في العام 1960، وهو ذات العام الذي انتخب فيه عضوا في البرلمان كمستقل نظرا لأن النشاط الحزبي كان ممنوعا، وكان المصراتي في تلك الفترة من أبرز المعارضين للنظام الملكي والداعين لإجلاء القواعد الأجنبية عن البلاد، وفي المقابل كان من أهم الداعين للتعديلات الدستورية التي تم إقرارها بخصوص توحيد البلاد ونقلها من الحكم الفيديرالي إلى الحكم المركزي.

ثروة البهجة

Thumbnail

 نزعة الوطنية والحس القومي كانا يسيطران على المصراتي الذي دخل السجن مرة في القاهرة وثلاث مرات في طرابلس بسبب مواقفه المعادية للاستعمار الأجنبي، وكتب عنه الأديب الراحل محمد الزوي ”في عهد الإدارة البريطانيّة دخل المصراتي السجن لمواقفه الوطنيّة فما جرحه السجن بقدر ما كانت فجيعته أنه لا يوجد كتاب واحد في السجن ومن حق السجين أنّ يتعلم وأن يقرأ وأن يشرب من ينابيع المعرفة والثقافة ولو كان في زنزانةٍ كالحةِ السواد. وعندما خرج  من السجن جمع ما يمكن جمعه من الكتب وعاد إلى السجن حاملاً صندوق الكتب ربّما ليؤسس أوّل مكتبةٍ ثقافيةٍ تعرفها السجون في ليبيا .وكان مدير السجن يومها ضابطًا إنجليزيًا، لقد هز هذا الرقي الانساني قلب الضابط الإنجليزي الذي كان يعتقد أنه حامل مشعل الحضارة الأوروبية، فكتب رسالة يحيّي فيها المصراتي السجين السابق لديه بتهمة حب الوطن والدفاع عن حريته“.

المصراتي يعدّ واحداً من زمن الكبار، شهد أبرز محطات التاريخ المعاصر لبلاده والمنطقة العربية، وقدم العشرات من الكتب، وكانت له بصمات واضحة في التاريخ السياسي لبلاده

تعتبر حياته نموذجا للثراء المبهج، فإلى جانب مؤلفاته التي تجاوزت الخمسين كتابا، والتي ترجم عدد منها إلى عدد من اللغات كالإنجليزية والإيطالية والفرنسية والصينية، تولى العديد من المسؤوليات في بلاده منها رئيس اللجنة العليا لرعاية الآداب والفنون، والأمين العام لاتحاد الأدباء والكتَّاب الليبيين، ومدير الإذاعة الليبية، وأصدر وترأس تحرير جريدة الشعب، كما عمل بوزارة العدل، وأسهم في لجنة صياغة القوانين بها، ثم عمل بإدارة المطبوعات، وقدم للإذاعة العشرات من البرامج والأعمال الدرامية، وكتب العديد من الأغاني، وشارك في المئات من المهرجانات والتظاهرات في الداخل والخارج، وتم تكريمه في العديد من المناسبات، كما سمحت له تجربة عمره المديد بالتعرف عن قرب والاجتماع مع قادة وزعماء من بينهم الحبيب بورقيبة وأحمد بن بلا وعلال الفاسي وارتبط بصداقات مع مصطفى العقاد ومصطفى عبدالرازق ونجيب محفوظ ومصطفى محمود وأم كلثوم ومحمد عبدالوهاب وأمل دنقل وأحمد رامي وأحمد أمين العالم وطه حسين الذي قال عنه إنه ”طموح إلى الأدب الرفيع، جانح إلى الفن بامتياز، محب للقدامى، راغب في التحرر من جحود التقليد، ميال إلى التجديد، حرص على الاحتفاظ بما ينفع، ويغزو العقل والروح من التراث القديم، له صدق في اللهجة وإرسال للعاطفة على سجيتها، ويشع في الكلام حرارة حلوة واخلاصا مستحبا“.

معارك ساخرة

Thumbnail

ووفق ما دوّنه الكاتب المصري أنيس منصور فإن ”هُناك طريقتين لكي تعرف ليبيا كلها، أن تذهب إليها وأن تلتقي بالأديب الصحافي المجاهد علي مصطفى المصراتي، لقد نشأ في مصر في بولاق وإذا لم يكن لك ذلك لاستطعت بسهولة أن تستنتج هذه الحقيقة من كثرة ما يعرفه ومن يعرفهم أيضاً، ثم روحه المرحة وسخريته الحادة ولسانه السليط وذاكرته المتربصة بكل الناس، ثق أنه أرشيف من الحوادث والنوادر والقضايا لكل الناس كأنه في حالة استعداد للدخول في أيّ معركة“.

ويختم منصور قائلاً ”لم أكن مبالغاً عندما سألني أحد الوزراء: ما الذي رأيته في ليبيا ؟ فقلت: لم أرَ سوى طرابلس.. وعلي  المصراتي. وليس هذا بالقليل، فقد رأيت أرضها وأهلها وتاريخهاً.. وجهادها.. ومستقبلها“.

حياته تعتبر نموذجا للطاقة التي لا تنضب، فإلى جانب مؤلفاته التي تجاوزت الخمسين كتابا، تولى المصراتي العديد من المسؤوليات في بلاده منها رئيس اللجنة العليا لرعاية الآداب والفنون، والأمين العام لاتحاد الأدباء والكتَّاب الليبيين، ومدير الإذاعة الليبية، وأصدر وترأس تحرير جريدة الشعب

لم تخل حياة المصراتي من الصراعات الفكرية ومن المشاكسات الطريفة سواء بقلمه أو في مجالسه اليومية بالمقاهي التي اعتاد ارتيادها في شارع عمر المختار أو في ميدان الجزائر حيث يدشن الشيشة ويدفع النقاش إلى أعلى درجات الحرارة بما لديه من معرفة وقدرة على تجميع الأفكار العميقة بروح متجددة مع نزعة صدامية وميل إلى النكتة وإقبال على الحياة التي واجه كل مصاعبها بجسده الضئيل وفكره الوقاد.

وأخيراً فإن المصراتي يعتبر أحد أبرز رواد الفكر والثقافة والإعلام العرب، ومن الأدباء الموسوعيين الكبار الذين لم يتركوا بابا من أبواب العطاء الفكري والأدبي إلا وطرقوه، حتى أطلق عليه لقب ”عقاد ليبيا“ وقد كتب عنه الكاتب الليبي الراحل نجم الدين غالب الكيب ”المصراتي حرث أرضنا البور، وألقى بذوره هنا وهناك، وعمل بصبر لا مثيل له، وانتوى

أن يجعل الأرض البور تسمن وتحبل وتثمر بكل أنواع العطاء الأدبي، على الرغم من سابق علمنا بأن الاستنبات في الأرض البور وفي رمال القحولة عملية مضنية“. وهذه الكلمات يدعمها سجل المصراتي الكبير ويسندها العقل المدرك لما أعطاه الرجل من تاريخ طويل من الإيمان بالكلمة في جميع تجلياتها وفي اتجاه مختلف أهدافها حتى تحوّل إلى مكتبة متجولة سيبقى أثرها خالدا عبر القرون.

13