علي محمد زيد: لولا وجود الإنترنت لعدنا إلى العصر الحجري

كاتب ومفكر يمني يدعو العرب إلى الإجابة عن أسئلة القرن 19.
الأحد 2022/12/11
العقل العربي يحتاج إلى التحرر من العزلة (لوحة للفنان فؤاد حمدي)

مر اليمن بمحاولات قصيرة للقطيعة مع التخلف المستدام، لكن الحرب الدائمة والمتقطعة وتراث الغلبة بالسلاح وهيمنة الاستبداد العاتي أحبطت هذه المحاولات رغم أهميتها والتي لا تزال تحاول تحرير العقول العصبية وخلق مجال للتنوير وهذا هو مشروع الأكاديمي اليمني علي محمد زيد الذي كان لـ”العرب” هذا الحوار معه.

عدن - الأكاديمي علي محمد زيد كاتب وباحث ومفكر وروائي يمني، اتسمت تجربته بالالتزام الصارم، والعمل الثقافي الدؤوب الذي أسفر عن العشرات من الكتب والدراسات والأعمال الأدبية والفكرية المتنوعة التي ساهمت في إثراء الثقافة اليمنية والعربية. وقد عمل سفيرا لليمن في اليونسكو لعقد من الزمن، وفي سجله الإبداعي نقل عددا من الأعمال الهامة عن اللغتين الإنجليزية والفرنسية إلى العربية، من بينها كتب في الأدب والتاريخ.

أصدر زيد في العام 1981 كتابه عن معتزلة اليمن، وألحقه بكتاب آخر في العام 1997 تحت عنوان “تيارات معتزلة اليمن في القرن السادس الهجري”، له رواية بعنوان “زهرة البن”، إضافة إلى قائمة طويلة من الإصدارات الثقافية والفكرية التي يناقش فيها بعض قضايا اليمن الإشكالية من زوايا ثقافية واجتماعية وتاريخية متعددة، متكئا على خبرة طويلة في البحث العلمي، حيث عمل مديرا للبحث في مركز الدراسات والبحوث وباحثا زائرا في جامعة “ميتشجان” في الولايات المتحدة الأميركية، ومحاضرا في عدد من الجامعات الأميركية، حتى 1990، وفي هذا الحديث مع “العرب”، يتحدث الدكتور زيد عن مسيرته الثقافية، ورؤيته لعدد من القضايا اليمنية.

إضافة نوعية

علي محمد زيد: لم يشهد اليمن في العصر الحديث ما يشهده اليوم من صراع وتنافر وتمزق للنسيج الاجتماعي للبلاد
علي محمد زيد: لم يشهد اليمن في العصر الحديث ما يشهده اليوم من صراع وتنافر وتمزق للنسيج الاجتماعي للبلاد

العرب: في كتابك “تيارات معتزلة اليمن في القرن السادس الهجري” اعتبرت “المُطَرَّفِيَّة” أخطر وأهم انشقاق فكري عقيدي في مدرسة الاعتدال اليمنية. برأيك، أين تكمن الخطورة والأهمية في تيار المطرفية؟

علي محمد زيد: تعد المطرّفية واحدا من أهم التيارات الفكرية المعتزلية إن لم تكن الأهم، لأنها مثّلت إضافة نوعية إلى فكر المعتزلة، استفادت من أكثر تيارات المعتزلة تقدما مثل النظَّام والجاحظ ومعمَّر، وأضافت إليها بعض المفاهيم الجديدة غير المسبوقة في الفكر العربي الإسلامي، مثل الأخذ بشيء من أصول العالم الأربعة المعروفة في الفلسفة المادية اليونانية قبل سقراط وأضفت عليها طابعا إسلاميا بالقول إن الله “فَطَر” هذه الأصول أو جَبَرَها على أن “تُحِيل وتَسْتَحِيل” لتتكوَّن منها جميع موجودات عالمنا المادي، وفقا لقانون السببية.

وتعد إعادة الاعتبار للسببية الإضافة الأهم التي أدخلتها المطرفية في الفكر المعتزلي ولا يزال الفكر العربي الإسلامي يتردد في القبول بها حتى اليوم. وهذا يذكرنا بأهم ما قاله ابن رشد في كتابه “تهافت التهافت” من أن “رفع السببية رفع للعقل”، لأن العلوم جميعا والبحث العلمي والتفكير العقلي عموما تقوم على قاعدة معرفة الأسباب وما تولد من نتائج. وبذلك توصلت المطرفية إلى حقائق علمية أصبحت من مسلمات العلم الحديث مثل القول إن البَرَد أبخرة البحار والأنهار تجمدت في الفضاء، أو القول إن للأمراض أسبابا من البيئة المحيطة تصيب بدن الإنسان فيعتل، وإن التداوي تعاملاىل مع هذه الأسباب وليس ردا لما قضاه الله وقدَّره. هذا من الناحية الكلامية. أما من الناحية الاجتماعية فقد أبطلت التميُّز على أساس العِرْق والنسب والقبيلة، وأثبتت المساواة بين الناس فلا يَشْرُف كائنٌ مَن كان إلا بعمله وجِدِّه وتحصيله.

وعلى ذلك حدَّدت موقفها من النقاش السياسي حول إمامة “الفاضل أو المفضول” بالقول إن الإمام أو الحاكم يجب أي يكون أفضل الناس علما وجسما وخلقا واستقامة وكرما ومناقب، وإلا فما الذي يجعله أحق بأن يحكم الناس ويقضي بينهم إذا لم يكن مؤهلا وصالحا لحكمهم والقضاء بينهم؟ وكانت النتيجة أن تكالبت عليها القوى المتسلطة في عصرها وحَكَم عليها الإمام بالكفر والرِّدَّة، وعاقبها بقتل المقاتلة (البالغين من الرجال) وسبي النساء والأطفال، فأباد من تمكَّن منهم، ولم ينج إلا من هرب من المذبحة إلى مناطق تقع خارج سلطة الإمام. وتولَّى المجتمع القبلي من بعده محوها تماما من الوجود بمرور الزمن.

العرب: في كتابك الصادر حديثا عن الشاعر الكاتب اليمني عبدالله البردوني بعنوان “البردوني: عزَّاف الأسى”، ماذا أضفت لسيرة البردوني وقراءة تراثه الثقافي والأدبي؟

علي محمد زيد: ظل الشاعر اليمني المبدع والكاتب الكبير عبدالله البردوني غير مدروس وإن كُتِبَت عن شعره مقالات في بعض الصحف وأحيانا جرت معه بعض المقابلات الصحفية والتلفزيونية هنا وهناك حتى رحل سنة 1999. لكن كل ما كُتِب عنه كان يتناوله متربعا في علياء نجاحه الشعري والاجتماعي.

أما حياته ومعاناته ومأساته بفقد البصر في الطفولة في بيئة قبلية لا قيمة فيها للرجل من دون حمل السلاح والقتال، وضياعه، ومعاناته من الجوع بالمعنى الحرفي للكلمة، والكفاح الصعب الذي خاضه وصبر خلاله على المَكارِه وواجه المعوقات الكثيرة، وظلمة السجون وظلمة العمى، وحاجته إلى الحنان والعطف وإلى إشباع احتياجات جسده الصغير المثقل بالآلام، فقد ظلت غير مدروسة. أما مؤلفاته النثرية الكثيرة المنشورة في عدة طبعات فأستطيع القول إن أحدا لم يدرسها ولم يستخرج ما فيها من إغناء للحركة الثقافية في اليمن.

العقل العربي يعاني من أزمة ناتجة عن الغرق في الماضي والعجز عن الانطلاق من التراث وإغنائه بإضافات جديدة
العقل العربي يعاني من أزمة ناتجة عن الغرق في الماضي والعجز عن الانطلاق من التراث وإغنائه بإضافات جديدة

ومع أنه ترك مذكرات في كتاب ضخم مكون من أكثر من ألف ومئة صفحة، جمعت مقالات متعددة نشرت في الصحافة خلال سنوات، فقد بعثرت سيرته في نص متشعب لا يتَّبِع أسلوب التأليف المعروف الذي يركِّز على موضوع التناول، ولا يتواصل بانسجام في تسلسل تاريخي واتِّساق منطقي، ويكثر فيه التكرار والاستطرادات، ولم يخضع لتحقيق دقيق ومحترِف يوضح ما هو غامض ويعرِّف بالأعلام والأماكن والحوادث المذكورة في ثنايا الكتاب، ولم يحظ بإعادة صياغة منهجية تجعله قابلا للقراءة المركَّزة والواضحة.

وهذا ما جعلني أشعر بوجود حاجة إلى دراسة سيرة البردوني التي تكاد تقترب من سيرة أبي العلاء المعري في الماضي وطه حسين في العصر الحديث في جانب الإبداع ومقاومة إعاقة فَقْد البصر والتمرد على العمى، والمثابرة في اكتساب المعارف حتى الصعود إلى مقدمة الصفوة الثقافية. لكن البردوني يختلف عنهما من حيث أن المعري ابن أسرة فيها علماء دين وقضاة شرعيون، ووجد نفسه منذ البداية في بيئة معرفية وأسرية وفرت له التوجيه الأوَّلي والدليل والمساعِد في شؤون حياته، ومن يقرأ له الكتب.

وطه حسين ابن عالم أزهري ووجد الدليل والمساعد عند الحركة والقراءة، ووُضِع على أول طريق المعارف منذ الطفولة وفَقْد البصر، في حين عانى البردوني من مصير قاس دون دليل ودون موجِّه في بيئة قبلية صعبة لا توفر للكفيف أي مساعدة، فوجد نفسه منذ البداية طفلا منبوذا من قريته الضائعة في أعماق ريف قبلي مهمل، ومحروما من مقومات الوجود العادي، فأمسك بمصيره بنفسه منذ الطفولة وواجه قدره القاسي، وتحمل بنفسه مسؤولية البحث عن إنقاذ من التسوّل والضياع، وسافر دون دليل للتملّص من الغياب والهلاك، وواجه الجوع والعذاب، متعلّقا بحبل المعرفة ليهتدي بذكائه الفطري إلى وجود الجامع المدرسة في المدينة التقليدية الأقرب، والأهم أنه اكتشف ذاكرته الاستثنائية وقدرته على حفظ النصوص والقصائد من القراءة الأولى، وتوج كل ذلك باكتشاف موهبته الشعرية منذ سن المراهقة.

كانت المعرفة بمثابة الحنان والإنقاذ من الجوع والضياع في ظرفه الوجودي الصعب، وكان الشعر حصانه الذي امتطى صهوته نحو النجاح والمجد والشهرة. وتجاوز انغلاق البيئة الثقافية في يمن ما قبل قيام الجمهورية عن طريق متابعة الثقافة العربية الحديثة خارج اليمن، وبخاصة في مصر، فكان معلِّم نفسه، دون قدوة أو مثال في محيطه المباشر إلا ما يُقرأ له في الكتب والصحف التي كان تسرُّبُها نادرا في العهد المظلم قبل قيام الجمهورية، حتى تربَّع في مقدمة الصفوة الثقافية وشارك في تجديد الشعر العربي واللغة العربية وأصبح أحد المثقفين العرب العقلانيين المستنيرين، وحافظ على موقف سياسي متوازن يناصر التقدم والتغيير والتطور، زاهدا عن المناصب، مكتفيا بالقليل في حياة نذرها للشعر وللإبداع والإنتاج الثقافي.

 وقد شعرتُ أن هذه الملحمة الكفاحية في مواجهة المعوقات الكثيرة وهذا الجهد الخلاق في اكتساب المعارف وإبداع الشعر والنثر تستحق أن تُدرس لتقدِّم درسا لمن نكبتهم الحياة بنوائبها ولليمنيين عموما وهم يواجهون المأساة الحالية، يوضح أن الإرادة أول مقومات الحياة في مجتمع معوَّق، وأن بذل الجهد والمثابرة بصبر أول طريق مغادرة سجن الفقر والتخلف وتجاوز مأزق الوجود المغلق بأزمات الوجود وبالمصائر العاثرة.

غلبة السلاح

لكل مجال من هذين المجالين مساره
لكل مجال من هذين المجالين مساره

العرب: كل خمسين سنة تقريبا نلاحظ في اليمن على وجه الخصوص أن التراث الاستبدادي يستعيد حضوره بدموية مقيتة، وترتّب على ذلك إيقاف عجلة الحضارة والمدنية. ما روافع هذا التراث الاستبدادي؟ وكيف بالإمكان تجفيف روافده في الزمان والمكان؟

علي محمد زيد: أهم أزمات وجود اليمن معاناته من الحرب الدائمة المتقطعة التي خلقت تراثا استبداديا قائما على الحرب والغلبة بالسلاح، ما أدّى إلى استدامة الفقر والتخلف. وقد كانت فترات الانقطاع عن هذا التراث الدموي الاستبدادي قصيرة. فقد مر اليمن بمحاولات قصيرة للقطيعة مع التخلف المستدام، لكن الحرب الدائمة المتقطعة وتراث الغلبة بالسلاح وهيمنة الاستبداد العاتي أحبطت هذه المحاولات ومنعت سيرها إلى الأمام. ولا تزال أسئلة النهضة والتحرر من موروث الماضي الاستبدادي المتواصل حاليا تطرح نفسها بقوة دون إجابات حقيقية تنير طريق بناء يمن متحرر ومتقدم ومشارك في بناء الحضارة المعاصرة.

العرب: إلى أي مدى بلغ الحوار والتعايش بين فئات المجتمع اليمني؟

علي محمد زيد: لم يشهد اليمن في العصر الحديث ما يشهده اليوم من صراع وتنافر وتمزق للنسيج الاجتماعي. فقد انتشر انعدام الأمن والفقر، وعاد التخلف من جديد. وتدمر الكثير مما أنتج العهد الجمهوري خلال نصف قرن من الزمان، وتوقف نمو مؤسسات الإنتاج الصناعي والزراعي، وتراجع الاقتصاد، وشُلّت المؤسسات المصرفية التي تسهل النشاط الاقتصادي والتنموي، وانهارت المؤسسات الثقافية والصحفية، وتدهور التعليم العام وتراجع التعليم العالي وانعزل عن التقدم الذي يشهده العالم في هذا المجال، وتوقف الابتعاث إلى الخارج والتبادل الثقافي والأكاديمي مع العالم المتقدم. ولولا وجود الإنترنت لعدنا إلى العصر الحجري.

توقف القطاع الحكومي عن التوظيف باعتباره أكبر موفر لفرص العمل في البلاد. وأدى ضعف النشاط الاقتصادي إلى انخفاض توفير القطاع الخاص لفرص العمل. وأضاف توقف المرتبات وقودا لهذه القاطرة المولدة للفقر ولاستدامة التخلف. كل هذا التدهور الأمني والاجتماعي والاقتصادي والثقافي يفرض على اليمنيين أن يتوقفوا عن العبث بحاضرهم ومستقبلهم ليبحثوا عن حل توافقي.

صحيح أن هناك فاعلين خارجيين يساهمون في مضاعفة هذا التمزيق لليمن ودفعه نحو المزيد من الفقر ومن استدامة التخلف، لكن اليمنيين متى أمسكوا بمصيرهم بأنفسهم، وبحثوا معا عن توافق على حلول عملية تضمن بناء تجربة متقدمة لبلد ناهض متعايش ومتسامح مع بعضه البعض، ضامن لأمن الجميع ومتصالح مع نفسه ومع الجميع، يستطيعون أن يتوصلوا إلى حلول تحقق خير اليمنيين ومصلحة الإقليم ومصالح العالم كله. ولا يوجد بديل عن هذا التوافق على حلول عملية تضمن حقوق الجميع ومصالح الجميع سوى الحرب الدائمة المتقطعة التي تزهق الأرواح وتهدر الموارد وتترك دمارا ماديا ومعنويا لا يمكن تعويضه، بدلا من التفرغ للبناء والتنمية والإنتاج، لمصلحة الجميع. 

العقل العربي

Thumbnail

العرب: يرى بعض المتصوفة أننا نكون بحاجة إلى العقل في البدايات، ولكننا بعد ذلك قد نكون أحوج إلى القلب في فهم الوجود وأبعاده وما ورائه. هل يتعارض العقل والقلب في تحصيل المعرفة واكتشاف الحقائق؟

علي محمد زيد: لعل إيمانويل كان قد فك الاشتباك منذ القرن الثامن عشر بين العلم والدين في العالم المتقدم، حين قال إن لكل مجال من هذين المجالين مساره، فيهتم العلم والتجربة الحسية بالعالم المحسوس وبالتجارب العلمية للوصول إلى نظريات وحقائق نسبية قابلة للتعديل والتطوير بتقدم العلم وبمواصلة التجارب وبابتكار التكنولوجيا المساعدة للوصول إلى هذه الحقائق، التي تظل دائما عرضة للتفكير العقلاني وللاختبار والتغيير والتعديل. على أن يُترَك ما وراء الطبيعة للدين، وألا يعمل كل مجال لنفي الآخر أو إرباكه، وهو ما يضمن احترام معتقدات الناس ويترك العلم يبحث ويجرب ويتوصل إلى ما يستطيع من حقائق قابلة للتعديل بتقدم البحث والتجريب.

العرب: عربيا، أين تكمن أزمة العقل العربي الراهن؟

علي محمد زيد: يعاني العقل العربي من أزمة ناتجة عن الغرق في الماضي والعجز عن الانطلاق من التراث وإغنائه بإضافات جديدة وإبداع جديد يستجيب لواقعنا الحاضر ويطوره للتوصل إلى إجابات شافية لأسئلة النهضة والتحديث والتنمية والبناء في منطقتنا العربية. مشكلتنا أننا منذ أن بدأ الفكر العربي الإسلامي يطرح أسئلة النهضة والتحديث في القرن التاسع عشر نراوح في مكاننا ولم نصل إلى إجابات شافية لهذه الأسئلة. أحيانا نتقدم قليلا إلى الأمام وأحيانا نعود القهقرى ونتراجع إلى أعتى ما في الماضي المظلم من انغلاق وتحجر وانسداد أفق.

العرب: العقل أوصل المعتزلة وطوائف أهل الكلام إلى التجديف في الأسماء والصفات والإساءة المباشرة للذات الإلهية. كيف ترد على هذا الطرح؟

علي محمد زيد: هذا فهم خاطئ تماما للفكر المعتزلي. فقد بدأ هذا الفكر بهدف الدفاع عن الإسلام في وجه العقائد الأخرى، وكان الخطوة الأولى نحو تطوير الفكر العربي الإسلامي ونقله من تسجيل السير والأحاديث ورواية الشعر والقصص والأساطير إلى التفلسف.

أهم أزمات وجود اليمن الحرب الدائمة المتقطعة التي خلقت تراثا استبداديا قائما على الحرب والغلبة بالسلاح

وكان موقف المعتزلة من الصفات الإلهية منطلقا مِن تعمُّق في تصور الذات الإلهية. فقد كان العربي لا يزال قريب عهد بعبادة الأصنام وبتصوّر الإله في شكل محدّد وصور مجسّمة، واطّلع المسلمون على اليهودية التي تنظر إلى الإله نظرة تجسِّده في شكل قابل للتصور وكأنه زعيم كبير في قوته وقدراته، كما يرد في التوراة أو العهد القديم، كما عرف المسلمون في المسيحية فكرة تجسيد الإله في صورة بشرية باعتباره الابن في الأقانيم الثلاثة المعروفة “الأب ـ الابن ـ الروح القدُس”، حسبما يرد في الأناجيل أو العهد الجديد.

لذلك استخدم المعتزلة العقل لتنزيه الله الواحد عن التجسيد والتحيُّز في الزمان والمكان. أرادوا أن يعطوا لله تصورا يبتعد به عن التجسيد في إله محدود، له يد، وسمع، وعين إلى آخر الصفات المحسوسة. لكنهم واجهوا مشكلة وجود هذه الصفات في القرآن، فأوَّلوها وأعطوا لليد معنى القدرة، وللعين معنى الإحاطة والرعاية وللسمع معنى العلم بالأشياء والإحاطة بمخلوقاته، وعلى هذا المنوال أوّلوا كل ما له معنى مجسَّد مباشر بأن أعطوا له معنى مجردا لا تحيط به الحواس، ولا تدركه الأبصار، وتجنبوا النظر إلى الله باعتباره كائنا محدودا في الزمان والمكان، وجعلوه مطلقا ليستحق الألوهية وخلق العالم من عدم، لا أول له ولا آخر، ولا مكان له ولا زمان. أعطوا الأولوية للإيمان بالله المطلق غير المحسوس ونفوا عنه كل ما يجعله ملموسا ومجسَّدا في زمان ومكان محددين ومحدودين.

العرب: لو طُلِب منك أن تعقد مقارنة بين “العقلية العربية” و”العقلية الغربية” مع إبراز أزمة كل عقلية من هاتين العقليتين. فما هي الحصيلة التي قد تخرج بها؟

علي محمد زيد: بصرف النظر عن الجدال النظري حول العقلية العربية والعقل العربي ومقارنتهما بالعقلية الغربية أو العقل الغربي، يحتاج الفكر العربي إلى تبني المناهج العلمية في التفكير العقلاني وفي البحث العلمي وتطبيقها على عمليات الإنتاج المعرفي والصناعي والزراعي وفي مختلف مجالات الحياة العربية، ليغير حياة السكان في هذه المنطقة من العالم، ويكافح الفقر والتخلف المستدام. فمنذ أن انفتح الدكتور طه حسين على منهج الشك الديكارتي في دراسته للتراث العربي الإسلامي، والذي يعني تحرير العقل ليجرؤ على التفكير العقلاني بالعالم التجريبي المحسوس مع فك الاشتباك بين البحث العلمي الذي يهتم بالتجارب العملية الملموسة وينتج حقائق نسبية قابلة للتعديل والتطوير بالمنهج نفسه، مع عدم التعرض للعقيدة الدينية التي لا مجال غيرها للتعامل مع أسئلة ما وراء الطبيعة، تراجعنا كثيرا ولم نجرؤ على تطوير رؤيتنا لهذا المنهج والاستنارة به في إنتاج نهضتنا وتطورنا.

والقضية ليست عقلا عربيا جينيا موروثا، لأن هناك عربا يعملون في أكثر مراكز البحث تقدما في العالم، يفكرون بشكل عقلاني وينتجون ويخترعون أحيانا. المشكلة في السياسات المتبعة لوضع مناهج التعليم المتخلفة، وفي الجامعات العربية المتردية التي لا توجد واحدة منها مصنّفة في العشر الجامعات أو العشرين جامعة الأولى في العالم، وفي غياب مراكز البحث العلمي المعتبرة في عالم اليوم.

لقد كان شاعر الاستعمار الإنجليزي في الهند كبلنج أول من قال في القرن التاسع عشر إن “الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا”، وهو المعروف بالحديث عن “العبء الملقى على عاتق الرجل الأبيض” في تمدين وتحضير شعوب العالم المتخلف، أي تعليمها معنى الحضارة وفرضه عليها من خلال السيطرة الاستعمارية. فتمسّك بهذه المقولة الكثيرون عندنا لأسباب سياسية تتعلق بالكفاح من أجل التحرر من الاستعمار الغربي ونيل الاستقلال الوطني. لكننا أصبحنا نلتقي كل يوم مع هذا “الغرب” عبر الإنترنت واستخدام غوغل وميكروسوفت، ووسائل التواصل الاجتماعي بخيرها وشرها، وغير ذلك كثير وكثير.

وقد أدهشني مؤخرا أنني في زيارتي للريف الذي كان معزولا إلى سنوات قريبة، وجدت شبانا يتابعون على الشاشات مباريات كرة القدم الأوروبية ويتحمسون لهذا الفريق الأوروبي أو ذاك. نحن اليوم نستهلك كل شيء قادم من العالم المتقدم، لكننا نقاوم الاستفادة من مناهج التفكير والعلوم والبحث العلمي في هذا العالم المنتج، لكي نطور أنفسنا وننتج كما أنتجوا ونبدع كما أبدعوا ونبني أوطاننا ونحسّن مستوى معيشة السكان في بلداننا العربية الإسلامية، ونساهم في بناء الحضارة العالمية. أكرر أن الخلل ليس في جيناتنا، بل في السياسات التي نتبعها في المجالات الثقافية والسياسية والاجتماعية.

ولنكن صريحين أكثر: حين تُطرح مثل هذه الأفكار المنفتحة على التقدم العلمي والفكري سرعان ما تُواجه بالخوف على الدين، لكن ديننا الإسلامي أقوى وأرسخ، وليس شيئا عابرا يمكن أن تطمسه الحضارة والتقدم الفكري والعلمي. ولو كان الإسلام هشا كما يتصورون لكان قد اختفى منذ زمن بعيد حين واجه تحديات تاريخية أخطر وأقوى.

باحث عن المعرفة

الفكر العربي يحتاج إلى تبني المناهج العلمية في التفكير العقلاني والبحث العلمي وتطبيقها على الإنتاج المعرفي والصناعي

العرب: أخيرا، أين يجد علي محمد زيد نفسه بعد هذا المشوار الثقافي الطويل، مترجما أم باحثا أم روائيا؟ وما هو مشروعك القادم؟

علي محمد زيد: أنا أعتبر نفسي تلميذا دائما يستهويه البحث عن المعرفة. أكتب وأترجم ما يشد انتباهي، وما يستجيب لحاجتي إلى المعرفة وإلى إغناء تصوراتي المحدودة. أختار ما أكتب ليعبر عن لحظات تحول في الحياة: فالكتاب عن دخول الفكر المعتزلي إلى اليمن يتناول لحظة ثقافية وسياسية فارقة في تاريخ اليمن، وكتاب تيارات الفكر المعتزلي في اليمن يرصد لحظة تحوّل، اصْطرع فيها لأسباب سياسية، الفكر المعتزلي كما ترسّخ في اليمن مع تيار فكري معتزلي قادم من العراق.

كتاب الثقافة الجمهورية يرصد تحول اليمن من عصور الظلام إلى الانفتاح على الثقافة العربية الحديثة وعلى العصر الحديث، والكتاب عن البردوني يتناول حياة طفل يمني فقد البصر في بيئة قبلية محاربة لا قيمة للرجل فيها إذا لم يحمل السلاح ويستعد للقتال، فخرج منبوذا من قريته ومن الوجود ليصارع الحياة بصبر وعناد ولكن بذكاء وقوة إرادة، حتى تربع في مقدمة الصفوة الثقافية اليمنية والعربية، فقدم لنا تجربة غنية في مقارعة الخطوب ومواجهة التحديات بإرادة لا تلين إذا أردنا الوصول إلى النجاح. وحتى الترجمة، كان أغلب ما ترجمته مدفوعا بالرغبة في تعميم المعرفة ببعض ما أعجبت به من نصوص وكتب وليس عن احتراف. وسأواصل السير على هذا الطريق بقدر ما أستطيع وحين أستطيع.

11