على هديّ السونيت الشكسبيري حلّق الطائر الغريد

ينتمي الشاعر العراقي حسب الشيخ جعفر إلى المرحلة المبكرة من عقد الستينات، تلك المرحلة التي تميزت بميل الكثير من شعرائها الشباب إلى التأثر بشعر السياب الذي مثل النموذج الحداثوي الأعلى حينها من جهة تحرره من المعايير الشعرية التقليدية وانفتاحه على التجارب الشعرية العالمية، لكن حسب الشيخ جعفر تمكن من شق طريق منفرد بأسلوب مختلف عن أقرانه ومجايليه.
بغداد – تتناول الناقدة نادية هناوي في كتابها “السونيت في شعر حسب الشيخ جعفر” تجربة الشاعر العراقي في كتابة السونيت الشكسبيري والطريقة التي بها لاحت تباشير هذا التجريب مع أولى نصوصه، وإفادته مما في فن السونيت من سمات استثمرها في ابتداع الصور وتوجيه ما لديه من طاقات شعرية.
التأثر بشكسبير
تقول المؤلفة في مقدمة الكتاب “على هديّ السونيت الشكسبيري حلّق الطائر الغريد، متمكنا من الشعر بكل لواعج أوزانه ومسارات سرده، وكانت المحصلة شاعرا باركته السيدة السومرية، وصائدا أعانته الرحلة الموسكوفية على اقتفاء آثار رؤى ومبان من التجريب الشعري كان الغالب عليها النزوع الشعري الدراماتيكي، ثم بدا النزوع السردي الواقعي يهيمن عليها، وأخيرا صار السرد الشخصي كيوميات ومذكرات وسير هو المبتغى، وفيها كان الشاعر قد رأى نفسه كاتباً آخر”.
كل فصل من الكتاب تضمن مباحث بتفصيلات وتنويعات وتحليلات وتمثيلات تضيء الطريق لأبرز التجارب الشعرية العربية المعاصرة
تؤكد هناوي في كتابها الصادر أخيرا عن دار أبجد للترجمة والنشر والتوزيع، على أن ظاهرة “التدوير” التي كانت بارزة في دواوين الشاعر الأربعة (1964 – 1975)، لم تحل دون أن يجرب حسب الشيخ جعفر ما هو جديد في كتابة قصيدة التفعيلة أو قصيدة النثر من جهة أو كتابة أجناس سردية سواهما من جهة أخرى.
ومما أثارته في كتابها سؤالها: هل انتهت مع ديوان “كران البور” جذوة التجريب عند حسب الشيخ جعفر وفترت همته في مجاراة سونيتات شكسبير المئة وأربعة وخمسين؟
يقع الكتاب في مئتي صفحة ويضم خمسة فصول، اهتم أولها بدراسة تجليات فن السونيت الشكسبيري كمرجع أساس من مرجعيات الشاعر منذ بواكير قصائده. وتتبع الفصل الثاني تجريب كتابة السونيت في قصيدة “المرفأ المقفر” المنشورة في ستينات القرن الماضي وتأثيرات هذا التجريب في شعر حسب الشيخ جعفر.
وناقشت المؤلفة في الفصل الثالث أشكال تغلغل السونيت في القصيدة الحسبية من ناحية تغلغل الإيقاعي بالسردي، وتغلغل الدرامي بالأسطوري، وتغلغل التكرار بالصوت والصورة. بينما ناقشت في الفصل الرابع عينة نقدية تتعلق بالتدوير في القصيدة الحسبية عموما وقصيدة “قارة سابعة” تحديدا. وجاء الفصل الخامس خاصا بدراسة ديوان “كران البور” من ناحية جماليات السونيت ومؤاخذاته.
وتضمن كل فصل مباحث بتفصيلات وتنويعات وتحليلات وتمثيلات تضيء الطريق لأبرز التجارب الشعرية العربية المعاصرة قاطبة.
ومما جاء في كلمة الغلاف “من الشعراء الذين استمدوا من الرواد تجريبهم الشاعر حسب الشيخ جعفر الطائر الغريد الذي حطَّ على نخلة الشعر فوجد السيدة السومرية إلهة جمال تغدق على محبها الإبداع بحنو مفتون وبليغ، حتى إذا منحته مباركتها وأعطته من جذوتها، رأى في مرآة الوجود ذاتَه تخترق أمداء ما وصل إليه شعراء قصيدة التفعيلة من تجريب يضيف جديداً. وقد بدأت تباشير هذا الجديد تلوح في الأفق مع أولى كتابات حسب الشيخ جعفر التي فيها جرَّب نظم القصيدة على نمط السونيت الشكسبيري من الناحيتين: الوزنية من خلال اللعب على التفعيلات، والدلالية من خلال اختصار الألفاظ وابتسار الصور وتكثيفها”.
قارة سابعة
يقول الشاعر العراقي علي جعفر العلاق عن فترة الستينات “في تلك المرحلة المزحومة بالتجريب ومشاكسة السائد الشعري حيناً، والقطيعة مع الماضي، حتى القريب منه، حيناً آخر، بدا حسب الشيخ جعفر منتمياً إلى زمن أكثر بهاءً وأقل مشاكسة: صوتاً شعرياً يخرج مصقولاً وصافياً وشجياً من ذات فوّارة بالقلق والحنين، دونما ادعاءات ودونما حذلقة. وفي الوقت الذي كان فيه شعراء الستينات، أو معظمهم على الأقل، يغذّون السير، كلّ على هواه، إلى نهاية محتومة، أو مصير محفوف بالشكوك. كان حسب الشيخ جعفر، ومعه قلة من جيله، يتجه إلى خيارات شعرية مدروسة بعناية، ومفتوحة على فضاءات من الاختمار المؤكد”.
ولا شك في أن تجربة الشاعر حسب الشيخ جعفر تجربة حداثية مرموقة، نظرا إلى تجديده في جنس قصيدة التفعيلة سواء بالتدوير أو بغيره. الأمر الذي أوصله إلى منطقة السرد بكتابته لقصيدة النثر ثم بكتابته للقصة القصيرة والرواية.
☚ تغلغل السونيت في قصيدة حسب الشيخ جعفر من ناحية تغلغل الإيقاعي بالسردي والدرامي بالأسطوري والتكرار بالصوت والصورة
وتقر هناوي بأن للشاعر حسب الشيخ جعفر منزلة لا مجادلة فيها ولا مزايدة عليها، فلقد نال ما يستحقه لا بسبب النقد الذي كشف عن تميزه ولكن بالتجريب في الشعر الذي مارسه حتى استطاع أن يحقق بعضاً مما أراده وربما كله.
وذكرت كيف اعتبر النقاد أن التدوير في شعر حسب تبعة من تبعات تجريبه لكتابة هذا النوع الشعري الذي هو غربي النشأة، فأراد حسب ضمه في جنس قصيدة التفعيلة. بمعنى أن الأصل في ما قصده الشاعر حسب الشيخ جعفر هو السونيت الذي كان التدوير تبعة من تبعاته لكن النقاد تركوا هذا الأصل وتمسكوا بالتابع مهتمين بالتدوير وحده نظرا إلى ما فيه من مساحات واسعة من التجريب قادرة على احتواء مسائل الحياة المتنوعة.
وبسبب ولع الناقد بالأوزان وإيقاعية ترتيبها صار التدوير بالنسبة إليه فرضية حاول إثباتها بأمرين: أولا سحب أولوية ابتداع التدوير من حسب وإثباتها لشعراء آخرين، وثانيا اعتبار قصيدة حسب “قارة سابعة” هي أول قصيدة اعتمدت التدوير.
وانتقدت سحب مسألة التدوير من الشاعر العراقي واعتبار أنه أورده متأثرا بأدونيس، وهنا تتساءل إذا كان هناك اقتناع أنّ قصيدة “قارة سابعة” لحسب الشيخ جعفر المنشورة في مجلة الكلمة العدد الثاني 1969 هي أول شعر حسب المدوّر تأثرا بقصيدة أدونيس، فلماذا إذن بحث عن قصائد نشرت قبل 1963 أي قبل نشر قصيدة “المرفأ المقفر” عام 1962؟
وتكتب “لا نجد إجابة سوى أن النقاد نسوا أمر قصيدة ‘المرفأ المقفر’ كأول نص لحسب الشيخ جعفر، وكان حرياً بهم أن يقفوا عند هذه القصيدة ويحللوها بوصفه أول الشاهدين على أن لحسب فيها تميزا فنيا”.
ولكن على مستوى شكلي فإن قصيدة “القارة السابعة” التي تناولتها هناوي في كاتابها الجديد، قد عصفت، وفق الكاتب العراقي فاروق يوسف، بصريا بقرائها بطابعها المدور، أي استمرار البيت الشعري بإيقاعه من غير التوقف عند قافية إلا في حدود ضيقة. تقرأ شعرا كُتب بالطريقة التي يُكتب من خلالها النثر “السطر المستمر”. أي الشكل الذي يظهر على الصفحة، ذلك جزء أساس من النزهة.
وأضاف “كان السوري خليل الخوري قد سبق حسب الشيخ جعفر إلى التدوير، غير أنه حافظ على شكل القصيدة الحديثة. ما فعله حسب كان حدثا استثنائيا يُحسب له من جهة طول النَفَس. ومن جهة أخرى فقد ساهم الشكل النثري في تشجيع الشاعر على الاستجابة لرغبته في أن يروي. كانت تلك القصيدة أشبه باليوميات التي تطمح إلى أن تكون رواية”.
وفي رأيه حتى في السرد الشعري نجا الشاعر من فخ السياب، كانت طريقته في السرد مختلفة من جهة استجابتها لتأثير رواية اللاوعي أو الحوار الداخلي كما جاء عند الأميركي ويليام فوكنر في روايته “الصخب والعنف” والإنجليزية فرجينيا وولف في معظم أعمالها.