على حافة أزمة حادة: تركيا تقطع الماء عن الآخرين وعن نفسها

أنقرة- تشير التنبؤات الجوية إلى أن تركيا ستكون على حافة أزمة مائية كبيرة يعزوها الخبراء إلى سوء إدارة ملف المياه خلال العقود الماضية بالرغم من أن أنقرة بادرت إلى بناء السدود على نهري دجلة والفرات وقللت الكميات الموجهة إلى العراق وسوريا، لكن من دون أن تحل أزمتها، وعلى العكس من ذلك، فهي تقطع الماء عن الآخرين وعن نفسها أيضا.
وشهدت تركيا أحرّ شهر من أشهر ديسمبر في أكثر من نصف قرن، حيث بلغ متوسط درجة الحرارة ثماني درجات مئوية، أي 3.2 درجة فوق المتوسطات السابقة. وزادت موجة الحر حدّة بسبب انخفاض معدل هطول الأمطار.
ولا تعود أزمة المياه فقط إلى تأثيرات تغيّر المناخ على تركيا، وهو أمر يشمل الكثير من دول العالم بما في ذلك أوروبا.
لكن افتقار تركيا إلى التدابير الوقائية ساهم في تواتر ظروف غير طبيعية أثّرت على الملايين في جميع أنحاء البلاد.
◙ معظم المزارعين يواصلون إهدار المياه رغم تحديث تركيا للوائحها الزراعية لتفي بمعايير الاتحاد الأوروبي
وتعاني تركيا من الإجهاد المائي، حيث حددت البيانات الرسمية انخفاض المقدار السنوي للمياه الصالحة للاستخدام للفرد في تركيا من 1652 مترا مكعبا سنة 2000 إلى 1346 مترا مكعبا في 2020.
ويصنف مؤشر فولكنمارك المستخدم على نطاق واسع لقياس ندرة المياه البلدان التي يقل نصيبها عن 1700 متر مكعب على أنها “مجهدة”.
ومن المتوقّع أن تنخفض كمية المياه للفرد في تركيا أكثر هذا العام، لتصل إلى 1200 متر مكعب. وكان هذا من الأسباب التي دفعت اللجنة الدولية المعنية بتغير المناخ إلى توقع أن تكون 60 في المئة من مساحة تركيا عرضة للتصحر.
وأعلن الصندوق العالمي للحياة البرية عن ندرة المياه في أكبر مدن تركيا مثل إزمير وإسطنبول وأنقرة.
وانخفضت الخزانات التي تزوّد إسطنبول بالمياه قبل عامين إلى أقل من 25 في المئة من طاقتها، وهو أدنى مستوى يُسجّل منذ 15 عاما.
وقال خبير المناخ في جامعة البوسفور ليفينت كورناز إن ظروف المياه متدهورة لدرجة أن سكان إسطنبول قد يحتاجون في النهاية إلى وضع سقف للاستهلاك.
وتقول ألكسندرا دي كرامر، وهي صحافية مقيمة في إسطنبول، إن التخفيف من حدة تغير المناخ لم يعد كافيا، بل أصبح التكيف واجبا، وإن القادة الأتراك لم يأخذوا المخاوف البيئية على محمل الجد سوى مؤخرا، حيث لم تصادق الدولة على اتفاقية باريس للمناخ لسنة 2015 سوى منذ عامين، ومع ذلك يبقى أداؤها ضعيفا في تلبية الأهداف المناخية.
وتحتل تركيا المرتبة 47 في مؤشر أداء تغير المناخ لعام 2023، الذي يقيس التقدم المناخي في 63 دولة في أوروبا وحول العالم. وجاء ترتيبها بعد مصر والهند وبيلاروسيا.
وبعبارة أكثر دقة فقد فاقم الافتقار إلى التدابير الوقائية ظروف الجفاف في تركيا.
وتقلصت 60 في المئة من بحيرات البلاد البالغ عددها 320 بحيرة أو جفت تماما في العشرين عاما الماضية. وساهم التحضر والأنشطة التجارية والعثرات الزراعية في تأجيج الأزمة.
وشهدت بحيرة مرمرة الواقعة في غرب البلاد أبرز التبعات. وتراجعت بنسبة 98 في المئة بين 2011 و2021. وكانت محمية للطيور تضم أكثر من 100 نوع مختلف منها، لكنها أصبحت أرضا قاحلة، ولم يفعل المسؤولون الحكوميون أي شيء لوقف الضرر. ورفعت مجموعة من الصيادين المحليين دعوى قضائية ضد وزارة الزراعة والغابات ردا على ذلك. وكانت الدعوى القضائية الأولى في تركيا المرتبطة بتغير المناخ.
وقال المحامي الذي يمثل المجموعة جيم ألتيبرماك إن بناء السدود في المنبع والإفراط في استخدام مزارع المنطقة تسببا في اختفاء البحيرة، مؤكدا أن مناشدات التدخل المتكررة لم تلق آذانا صاغية من مسؤولي المياه المحليين.
وتقول دي كرامر في موقع سنديكيشن بيورو للرأي إنه سيتحتّم على تركيا أن تبادر إلى إصلاح طرق استعمال المياه في الزراعة إذا كانت تريد تخفيف أزمتها.
وتخصص أنقرة حاليا 73 في المئة من إجمالي إمدادات المياه للريّ. ويعتمد جل المزارعين أسلوب الري السطحي، مما يؤدي إلى استنزاف المياه الجوفية بمعدل مرتفع. ويمكن للمزارعين خفض استخدام المياه إلى النصف من خلال التحول إلى الري بالتنقيط، مما يوفر للبلاد حوالي 38 مليار متر مكعب سنويا.
ويواصل معظم المزارعين إهدار المياه رغم تحديث تركيا للوائحها الزراعية لتفي بمعايير الاتحاد الأوروبي. ولا يُذكر الري الزراعي في قانون إدارة المياه الجديد في البلاد الذي يتضمن اللوائح الخاصة بالسدود والبرك ومحطات الطاقة الكهرومائية.
25
في المئة نسبة انخفاض الخزانات التي تزوّد إسطنبول بالمياه قبل عامين وهو أدنى مستوى يُسجّل منذ 15 عاما
وهذا ليس مستغربا، حيث أطلقت الحكومة مرارا مشاريع بيئية قبل التخلي عنها. وكان من أبرزها مبادرة “1071 بركة في ألف يوم”، وهي خطة صيغت في 2016 لبناء أحواض ري في جميع أنحاء البلاد. واندثر المشروع بصمت قبل أن يكتمل.
ومن الأخطاء البارزة الأخرى مشروع زراعة الأشجار الذي تبناه رجب طيب أردوغان، وهو جهد طموح لزرع 11 مليون شتلة في يوم التشجير الوطني في نوفمبر قبل أربعة أعوام، لكن 90 في المئة من الشتلات قد ماتت في وقت لاحق.
ولا يهتم حزب العدالة والتنمية الحاكم برأي الخبراء ويمارس أجندته الخاصة بغض النظر عن عواقبها. ورأينا هذا مؤخرا مع الزلازل التي أودت بحياة عشرات الآلاف من الأشخاص. وحدد المهندسون أن تطبيق لوائح البناء كان سيحدّ من الأضرار المادية والبشرية.
وتبقى مياه تركيا ثروة لا يمكن المقامرة بها. ويجب على البلاد التحول إلى حلّ أكثر استدامة إذا أرادت تجنب أزمة المياه. كما يجب على الحكومة أيضا أن تستمع إلى خبرائها وتدرس كميّات البيانات التي ينتجونها.